ليس جديداً ما كشفته وثائق سرية أميركية نشرها موقع "ويكيليكيس" قبل أيام عن اتصالات أجريت عشية الحرب الأخيرة على غزة، وليس مفاجئاً ما يمكن استنتاجه منها بشأن حجم الفجوة التي تفصل بين حركتي "فتح" و"حماس" وسلطتيهما في الضفة الغربية وغزة. كما لم يكن مدهشاً إعلان قيادي في "حماس"، بالتزامن مع نشر هذه الوثائق، أن الخلاف مع "فتح" هو في الأصول وليس الفروع. فقد بات حجم هذا الخلاف معروفاً مثلما صار واضحاً أن طرفيه يفتقدان، بدرجات متفاوتة، الإرادة وربما أيضاً الرغبة في حله. لذلك لم تفلح جهود المصالحة، التي بُذلت على مدى نحو ثمانية أعوام، في وقف التدهور الذي أفضى إلى انقسام جغرافي. كانت الأزمة بين "فتح" و"حماس" سياسية عقائدية عندما بادرت مصر برعاية حوار وطني واسع لرأب الصدع الفلسطيني في أواخر عام 2002. غير أنه بعد أكثر من أربع سنوات تحركت فيها مصر بغطاء عربي، وشاركتها السعودية بجهد كبير أسفر عن اتفاق بين "فتح" و"حماس" في مكة في فبراير 2007، تحول الصدع إلى انهيار كامل عبر سيطرة "حماس" على قطاع غزة في يونيو 2007. وبعد أكثر من ثلاث سنوات على ذلك الانهيار، يتبين الآن أن المصالحة الفلسطينية ليست متعثرة بل غير ممكنة إلى أجل غير مسمى. كان هذا واضحاً قبل جولتي الحوار بين "فتح" و"حماس" اللتين عقدتا في دمشق في سبتمبر ونوفمبر من العام الجاري. لكنه بات أكثر وضوحاً بعدهما. فقد تأكد أن المشكلة ليست في رعاية مصر لهذا الحوار، ولا في الورقة التي طرحتها وشنت "حماس" هجوماً شديداً عليها، بل في غياب أي مقومات لنجاحه، بدليل أن اجتماع الطرفين في سوريا لم يغير في الأمر شيئاً. ولم يكن التفاؤل الذي ظهر في أعقاب الجولة الأولى التي استضافتها دمشق في الأسبوع الأخير من سبتمبر الماضي إلا سراباً. فما بدا أنه تقدم كبير في تلك الجولة لم يكن إلا نتيجة عدم الخوض في المعضلة الرئيسية وهي الملف الأمني. لذلك كان الحديث في نهاية الجولة الأولى عن اتفاق على جميع نقاط المصالحة باستثناء واحدة غير ذي معنى. فهذه النقاط تتعلق بمسائل إجرائية لا يصعب الاتفاق عليها في أي وقت، مثلما يسهل النكوص عن هذا الاتفاق قبل أن يجف مداده. كما أن معظمها يتعلق بقضية الانتخابات، سواء اللجنة التي تشرف عليها أو المحكمة التي تنظر في طعونها أو الموعد الذي تجرى فيه. ولم تكن هذه هي المشكلة في أي وقت، بدليل أن انتخابات عام 2006 أجريت في عز الانقسام، وأن الاتفاق على إجراءاتها كان سهلاً. لذلك كانت النقطة الباقية، وهي "اللجنة الأمنية العليا التي تُكلف بإعادة بناء وهيكلة أجهزة الأمن" هي موطن الداء. وما الخلاف على هذه اللجنة، والملف الأمني في مجمله، إلا نتيجة أن كلاً من الطرفين بات يتعامل مع الوضع الراهن باعتباره نهائياً أو على الأقل مستمراً إلى أجل غير مسمى. وهذا ما يجعل المصالحة مستحيلة في هذا الأجل. وعندما عُقدت جولة دمشق الثانية في 9 نوفمبر الماضي، تبين ذلك بوضوح. فلم يصطدم الطرفان فقط بشأن الملف الأمني الذي لم يتطرقا إليه في الجولة الأولى، بل انتكس ما قيل إنه اتفاق مهم حققوه في تلك الجولة. وهكذا ثبت مجدداً أن الملف الأمني بلغ استعصاؤه مبلغاً يجعل الحديث عن فرصة باقية للمصالحة في أي مدى منظور خداعاً للذات. وهذا ما لا يريد الفلسطينيون، والعرب المعنيون بقضيتهم، الاعتراف به والتفكير بالتالي في حل أكثر واقعية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قضية باتت معرَّضة للانحسار. فقد توسعت الهوة بين الطرفين إلى حد أنهما صارا عاجزين عن الاتفاق حتى على تسمية لقاء يجمعهما كما حدث بشأن حوارهما الأخير في دمشق. فقد أطلقت "حماس" عليه اسم "جولة الحوار الحاسمة"، بينما فضلت "فتح" أن تسميه "لقاء معالجة الملاحظات على بند الأمن في ورقة المصالحة المصرية". ولا يخفى أنه كان في خلفية الاسمين رغبة كل من الطرفين في إرضاء دولة عربية يحرص على كسب ودها. لكن هذا لا يعني أن استعصاء المصالحة الفلسطينية يعود لأسباب إقليمية. فهذا استعصاء وطني بامتياز يرتبط بتحول "فتح" و"حماس" من شريكين متنافسين في النضال من أجل قضية واحدة إلى خصمين متصارعين لكل منهما مصلحته التي باتت تتقدم هذه القضية. لذلك يتصرف كل منها تجاه الآخر كما لو أنه هو، وليس إسرائيل، مصدر التهديد الرئيسي له. فما كاد سراب حوار دمشق يبتعد حتى عاد كل منهما إلى إظهار اللدد في الخصومة. فقد أعلنت السلطة الفلسطينية اعتقال خلية "حمساوية" اتهمتها بالتخطيط لاغتيال محافظ نابلس ومحاولة تغيير قواعد اللعبة، واقترن ذلك بتوسع في اعتقال أعضاء وكوادر في حركة "حماس" في بعض مدن الضفة الغربية وبلداتها. وليست هذه الإجراءات المتبادلة إلا دليلاً على أن كلاً من الطرفين سيتمسك بسيطرته على المنطقة التي تخضع له الآن، وسيرفض أية معالجة للملف الأمني تهدد هذه السيطرة. كما أنها مؤشر على أن الانقسام الجغرافي سيبقى مادامت الثقة معدومة بين الطرفين. فقد صار هذا الانقسام أكبر من أي جهود تُبذل لتجسير الفجوة ناهيك عن أن تطمح إلى تحقيق مصالحة. لذلك لم يعد ثمة ما يبرر مواصلة الركض وراء سراب أصبحت حقيقته معلومة. وربما يكون الأوان قد حان للتحلي بالواقعية وتركيز الجهود المصرية، والعربية عموماً، باتجاه محاولة إقناع الطرفين بالاتفاق على ما يمكن التعاون فيه والتفاهم على منهج أرقى لإدارة الخلافات التي لا يمكن حلها. وإذا كان عباس مستعداً بالفعل لحل السلطة الوطنية، وفق ما أعلنه السبت الماضي، فينبغي أن يسبق ذلك ترتيب الوضع بين "فتح" و "حماس" على أساس أن تتعاونا فيما تستطيعان وتعذر إحداهما الأخرى فيما لا يمكنهما الاتفاق عليه، بشرط أن تتعهدا بعدم التصعيد وتنبذا الاقتتال. وبدون ذلك، ربما يؤدي حل السلطة في الضفة الغربية إلى صدام أكثر حدة بينهما. ولا معنى، هنا، للامتناع عن التعامل مع هذا الواقع المؤلم بدعوى تجنب ترسيخ الانقسام لأنه يتكرس فعلاً يوماً بعد يوم في غياب منهج أكثر تحضراً لإدارته. فإذا لم يكن إنهاؤه ممكناً، فلنعمل للحد من آثاره السلبية بدءاً من الاعتراف بأن المصالحة ليست واردة في المدى المنظور. وفي هذا... فليجتهد المجتهدون.