في التاسع والعشرين من شهر نوفمبر المنصرم، انطلق بمدينة "كانكون" المكسيكية المؤتمر السادس عشر حول التغير المناخي تحت إشراف الأمم المتحدة، الذي سيمتد إلى العاشر من ديسمبر الجاري. لكن وخلافاً لقمة كوبنهاجن التي انعقدت في العام الماضي وما أحاط بها من أجواء طبعها التفاؤل حول احتمال التوقيع على اتفاق ملزم يفرض على الدول خفض الغازات المسببة للاحتباس الحراري يأتي لقاء هذا العام بتوقعات متواضعة لا ترقى إلى التطلعات المعقودة على مؤتمر عالمي وضع لنفسه هدفاً طموحاً يتمثل في الحد من التغيرات المناخية والتقليل من ظاهرة الاحتباس الحراري. ولا يبدو أن أحداً كان يتوقع من المؤتمر الحالي إحراز أي اختراق جوهري في القضايا البيئية المطروحة بسبب تباين مواقف الدول المشاركة والتحفظات الكثيرة التي تبديها الحكومات إزاء تقييد النشاط الاقتصادي، هذه التوقعات المتواضعة هي ما تفسر عدم اهتمام الإعلام بالحدث وإيلائه التغطية الذي يستحق مقارنة بالاهتمام الذي رافق قمة كوبنهاجن، واللافت أن التلكؤ الذي تبديه بعض الدول في معالجة قضايا التغير المناخي المستعجلة والتي باتت تداعياتها واضحة للعيان يأتي رغم المؤشرات العلمية الملموسة المحذرة من استمرار الوضع البيئي الحالي، لا سيما في ظل تقديرات منظمة الطقس العالمية التي أكدت أن نسب انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري وصلت في العام 1999 إلى أعلى مستوى لها منذ الحقبة ما بعد الصناعية. ومع أن الوضع يسوء عاماً بعد عام وترتفع درجة الحرارة على نحو مطرد تبقى ردود الفعل العالمية دون المستوى المطلوب، بحيث تستمر الدول في أنشطتها الملوثة مؤدية بذلك إلى تفاقم الوضع البيئي الذي سيكون على الأجيال القادمة التعامل معه ضمن ظروف أسوأ مما هي عليه اليوم. وقد كانت الفكرة من وراء عقد لقاءات دولية متتالية لبحث الحلول المناسبة للاختلالات البيئية المتفاقمة هو بلورة مجموعة من الإجراءات ومحاور العمل الأساسية القادرة على تجنيب العالم والأجيال القادمة الكوارث المرتقبة، تلك المحاور التي من أهمها اتخاذ الإجراءات العاجلة لمواجهة الاحتباس الحراري من خلال سن قوانين سواء على المستوى الداخلي للدول، أو على مستوى الهيئات العالمية لتقليص انبعاث غازات الدفيئة وفرض ضرائب على الشركات والمصانع الملوثة، كما طالبت المؤتمرات في كل مرة انعقدت فيها بنقل التكنولوجيا من الشمال إلى الجنوب، ودعم التبادل التقني بين دول الشمال فيما بينها للتوصل إلى حلول علمية قد تساهم في تقليل خطر التغير المناخي، هذا بالإضافة إلى الحفاظ على الغطاء النباتي لكوكب الأرض والحد من اقتلاع الأشجار وتدمير الغابات وإنشاء صندوق عالمي يُخصص لتمويل عمليات الحفاظ على البيئة على المدى البعيد، ويمد الدول الفقيرة بالموارد الأساسية لاستغلال مواردها الطبيعية دون استنزافها. لكن رغم هذه الأفكار والتصورات التي بات يدركها الجميع، لم يكن يتوقع أحد خلال مؤتمر "كانكون" أن يحصل الإجماع الضروري بين البلدان المشاركة للتوقيع على اتفاق ملزم قانونياً، علماً أن اتفاقية كيوتو، بكل نقائصها وعجزها في الحد من التغيرات المناخية، توشك صلاحيتها على الانتهاء بحلول العام 2012، الأمر الذي دفع الأكثر تفاؤلاً من المراقبين إلى التعويل على الوقت المتبقي لاجتراح حلول تنقذ المعاهدة، لا سيما وأن هناك جولة أخرى ستعقد في ديسمبر 2011 بديربان في جنوب أفريقيا، وإنْ كان الخوف أن ننتقل من مؤتمر إلى آخر ويضيع المزيد من الوقت والجهد دون التوقيع على اتفاق ملزم يحدد الواجبات والمسؤوليات، ويضع الحكومات أمام مهامها البيئية. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى الصين التي تقر بالتكلفة العالية التي تتكبدها مواردها الطبيعة والاستنزاف الخطير للبيئة الذي تعاني منه جراء نموذجها الاقتصادي المتسارع، وتغليبها النمو بشكله الحالي على الاقتصادي المستدام، لكنها مع ذلك لا تستطيع في الوقت الراهن الانخراط في عملية تقييد نشاطها الاقتصادي للحد من انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري تحسباً للاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي قد يحدثها أي تراجع في النشاط الاقتصادي. ولا يختلف الأمر كثيراً في الولايات المتحدة، إذ رغم النوايا الطيبة التي أفصح عنها الرئيس الأميركي تجاه المجال البيئي، وموافقة إدارته على خفض بصمتها البيئية إذا ما التزمت الصين بالشيء نفسه، يبقى التحدي الأكبر العودة المظفرة لـ"الجمهوريين" إلى الكونجرس بعد الانتخابات الأخيرة، ومعروف عنهم معارضتهم لخفض الغازات المسببة للاحتباس الحراري مثل ثاني أكسيد الكربون وغيرها، هذا بالإضافة إلى تشكيكهم في دعوات أوباما وخططه للاعتماد على الطاقات البديلة، وقد رأينا كيف أجهضوا محاولاته لإقرار قانون جديد للطاقة يعطي الأولوية للطاقات المتجددة على حساب تلك الملوثة للبيئة. ويبقى الأمل الوحيد في التحركات الأوروبية، التي وإنْ كانت غير كافية لوحدها كي ترجح كفة الميزان البيئي، إلا أنها مفيدة ومهمة بعدما أعرب الاتحاد الأوروبي عن استعداده لخفض 30 في المئة من نسبة الانبعاثات الحالية مقارنة بمستويات العام 1990، فضلاً عن تمويل سنوي يقدر بملياري يورو من المشاريع الموجهة لمساعدة البلدان الفقيرة ومحاربة تداعيات الاحتباس الحراري، ورغم إقرار دول مجموعة العشرين في لقائهم الأخير بالعاصمة الكورية الجنوبية بضرورة التحرك العاجل لتصويب الاختلالات البيئة، يُخشى أن يظل كل ذلك مجرد كلمات رنانة تُطلق في المناسبات العامة دون أن تعرف طريقها إلى التطبيق. ويبقى السيناريو الأرجح خلال اللقاء الذي أجري في "كانكون" الأسبوع الماضي هو الفشل مرة أخرى في بلورة اتفاق ملزم مع فارق بسيط، هو أنه خلال هذه المناسبة لن يصاب أحد بالدهشة. وفي غياب الإرادة الدولية الواضحة لمكافحة ما أجمع على خطورته العلماء يبقى من الصعب الحديث عن مجتمع دولي قادر على مواجهة المشاكل العالمية، وهو ما يدفعنا إلى التعويل أكثر على العمل القاعدي المتمثل في انخراط المجتمع المدني بهيئاته وجمعياته المختلفة، بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية ومواصلة ضغطها على الحكومات والدول علها تستيقظ من سباتها وتنفض عنها غبار التقاعس والتلكؤ.