ذهب موقع "ويكيليكس" بالإعلام إلى أبعد مما يطمح، وبالسياسة إلى أعمق مما تستطيع، وبالدبلوماسية إلى ما وراء الابتسامات الكاذبة، وبالأخلاقيات إلى نقيضها. بل ذهب إلى حد تسخيف كل ما يمكن أن يصنف كـ"فكر سياسي"، مبرهناً بالكلام المباشر والمواقف الخام أن السياسات تصنع في الولايات المتحدة استناداً إلى القيل والقال لا إلى الحقائق والوقائع، أو إلى المبادئ. هذه "الوثائق" المؤرخة، المرسلة بصفة السرية، تدخلنا إلى غرف الاجتماعات المغلقة، وتنقل الكلام من أفواه المصادر مباشرة إلى دبلوماسيين أميركيين سيبرقونها إلى رؤسائهم. والأكيد أن المتحدثين، ولاسيما المسؤولين في دول صغيرة ومأزومة، يأملون إما بدعم أميركي أو بالتأثير في مواقف واشنطن، ولذلك يدفعون بالصراحة إلى أقصاها، ولا يخطر في بال أحدهم أن ثمة من يمكن أن يقف في الطريق لينشر الأسرار على الشبكة. ثمة انكشاف أميركي، ولاشك في ذلك، ومن الطبيعي أن يصار إلى التفكير بتغيير العدد الكبير من السفراء، لأن برقياتهم لم تكن لائقة حيال البلد الذي يتأبطون فيه حقيبة تمثيل أميركا. بالطبع لا يمكن لومهم، فمن صميم عملهم أن يلتقوا أناساً ويسألوا ويسجلوا إجابات. لكن بعضهم فضح مشاعره تجاه البلد أو مسؤولي البلد الذي انتدب إليه. وبعض آخر أصغى أكثر إلى المعارضين والخصوم، ولم يتردد في نقل أقاويل عن صفقات تعزز شبهات الفساد في هذا الشخص أو ذاك. المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة لم تعرف كيف تواجه اتهامات بأن بعثتها مطالبة رسميّاً، حسب الوثائق، بالتجسس حتى على الأمين العام "بان كي مون"، الكوري الجنوبي الذي لا يمكن أن يحيد قيد أنملة عن الخط الأميركي. اعتمدت سوزان رايس على أن زملاءها ونظراءها يثقون في حسن النية الذي توحي به. أما وزيرتها هيلاري كلينتون فأمضت عطلة عيد الشكر في مهاتفة مختلف العواصم لتقول إن ما تتضمنه البرقيات المسرّبة شيء، أما السياسات المتبعة فهي شيء آخر. لكن "الثقة" أصبحت مسألة فيها نظر، وحتى لو لم يبدِ أحد أي رد فعل غير مألوف إلا أن دبلوماسيي أميركا سيعاملون منذ الآن على أن الفوارق بينهم وبين الجواسيس هشة أو منتفية. لاحظ كثيرون، إلا أن نائباً تركيّاً جهر برأيه، أن إسرائيل قد تكون المستفيد الوحيد من التسريبات. هناك أكثر من تفسير لذلك. أولها أنها دولة تعتمد أساساً سياسات مخالفة للقوانين الدولية، فلا يضيرها بالتالي أن ينقل عنها أي شيء، إلا إذا تعلق بأسرار حقيقية تفضل تأخير فضحها. وثانيها أن إسرائيل تمارس الجوسسة في كل الأحوال، ولا ترى عيباً -بل على العكس- في أن يكون ديبلوماسيوها موساديين. وثالثها، وهو الأهم، يعزى إلى أن نشر الوثائق لم يكن نموذجاً لـ"الحرية المطلقة"، كما قد يوحي جوليان أسانج وزملاؤه، وإنما تأثر بمداخلات ومساومات. ليس صدفة أن "نيويورك تايمز" اختارت الانغماس في هذه الموجة من التسريبات، خلافاً لموجتي أفغانستان والعراق. فهذه المرة يتعلق الأمر بقضايا كثيرة ومختلفة. وحسب "لوموند" الفرنسية فإن الصحف الخمس (بالإضافة إلى "الغارديان" البريطانية و"البايس" الإسبانية و"درشبيغل" الألمانية) تشاورت كثيراً في ما بينها، ما يشي بأن ثمة "رقابة" عامة وذاتية فرضت نفسها في ما يمكن تعميمه من التسريبات. أي أن الصحف تحكمت في ما يجب إيصاله إلى الجمهور، لأن المختصين والمهتمين وحدهم سيعمدون إلى فتح موقع "ويكيليكس" بحثاً عما يتعلق ببلدانهم أو بمسائل محددة تتطلب الغوص في آلاف الوثائق. إلى أي حد يمكن أن يكون النشر مفيداً سواء في تقويم السياسات وتصويبها، أو في الحد من ازدواجية المواقف والخطاب واللغة، أو في تعزيز الحريات والشفافية؟ الأكيد أن الحكومات، خصوصاً الأميركية، تتهيأ لبناء ترسانات تشريعية وتقنية للحؤول دون تكرار مثل هذه الواقعة، أما المؤكد فهو أن السياسات نفسها قد لا تتعرض لمراجعة بسبب "ويكيليكس". لكن العالم، بعدما ضُبط الأميركيون متلبسين، سيعاملهم بمنسوب أكبر من الحصافة. ومع ذلك، كيف يمكن العالم أن يقبل بعد الآن إعلاماً أقل شفافية بل فضائحية من هذا الإعلام الويكيليكسي.