كم نحن موهومون؟ أو بمعنى أقرب إلى الدقة كم نتغافل عن حقائق تجري أمامنا ونصر ألا نصدق التصريحات وصور المصافحات والمؤتمرات الصحفية. ورغم أننا نعلم يقيناً ما تفعله الولايات المتحدة في بغداد وأفغانستان، فإن الأرقام كانت مخيفة وفوق توقعنا الإنساني الذي لا يمكنه البتة، تصور أن جرائم الحرب قد تصل إلى كل هذه الدموية كما كشف عنها موقع "ويكيليكس" في تسريباته. والغريب هو أن اتهامات أو فضائح الاغتصاب تطارد مؤسس الموقع، وهي تماماً كالكوابيس التي نجدها في بعض دول العالم الثالث، حين ترغب في الانتقام من شخص تجرأ وأبدى وجهة نظر معاكسة لما يريده النظام. وهي قصة قديمة، حتى وإن كان بلد الاتهام بعيداً عن الشبهات، كالسويد. ولعل الأحاديث التي تتناول قرب سقوط أميركا وربما تلاشي قوتها العالمية، تبدو قريبة للتصديق، فاشتهار فضيحة من هذا النوع لمؤسس موقع إلكتروني دلالة على ضعف موقف الولايات المتحدة الذي يبدو مهزوزاً وغائماً. وهو موقف قد يتنافى مع ديمقراطيتها التي كشف الموقع أنها فقط قابلة للتطبيق ضمن نطاقها الجغرافي، لأنها حالما تخرج من حدودها فإنها تتحول إلى قوة كلاسيكية قد تتخلى عن إنسانيتها وتقترب إلى حد ما مع تاريخ القوى الإمبريالية التي مرت على منطقة الشرق الأوسط تحديداً. فالوثائق المنشورة، أغلب التوقعات كانت تزعم بوجودها، ولم تكن هناك أسرار دقيقة، ولكن بشاعة الحقائق، هي أن القرار الأميركي قائم على آراء شخصية من أشخاص يعملون في السلك الدبلوماسي، ويملون على الإدارة الأميركية ما يريدونه وفقاً لأهواء وعلاقات شخصية بعيدة أحياناً كثيرة عن الموضوعية والصدقية. وما حدث فعلياً هو سقوط الأقنعة وسقوط الشعوب في أفخاخ للأكاذيب. وكأن الأمر برمته لعبة كل من يشارك فيها يلعبها بعيداً عن الثوابت الأخلاقية. وما تؤكده الوثائق أيضاً هي نظرة الاستعلاء التي طالما عانت منها الدول المستعمرة، فما زالت أوروبا وأميركا تنظران لغيرهما من شعوب العالم الثالث نظرة مليئة بالطمع وبانتهاز الفرص، وإلا ما هو مبرر حرب العراق سوى المزيد من بسط النفوذ على منابع بترولية غنية؟! وكأن التاريخ هو الحاضر حين يعلن لنا عن أسماء لبعض من سقطوا في مؤامرة سرية ضد شعب أعزل كفلسطين... أي تاريخ كان الذي امتلأت هوامشه بالتجاوزات، وها هو الحاضر يعيد ما كان وكأن التعلم من الماضي ليس وارداً في حسابات أحد منهم. لا يكفي أن يحارب "آسانج" مؤسس الموقع بالاتهامات وبتحديد الإقامة، لأنه ببساطة أعطى الضوء الأخضر لآخرين مثله بالذهاب إلى الأماكن المعتمة. لن يكون "أسانج" وحيداً وبلا مثيل، سيكون فقط بدأ الحديث عن كوابيس مصنوعة... والولوج إلى أماكن محظورة. لن يتضح كل ما تحاول أميركا وغيرها أن تفعله مع "ويكيليكس"، لأن غيره قادم، فلا أسرار بعد اليوم، بل حقائق موجعة ولكنها بالتأكيد واعدة بالمستحيل.