تضمّ العاصمة الإماراتية أبوظبي القمة الخليجية الحادية والثلاثين وهي منتشية باحتفالاتها الجميلة باليوم الوطني التاسع والثلاثين، وهو ما نرجو أن ينعكس على قمة يُنتظر منها أن تتخذ قرارات مهمة في عدد من الملفّات الخليجية الملحّة وأنت تبتّ في مشاريع معلقة منذ أمد ليس بالقصير يتمّ ترحيلها قسرياً من قمة إلى قمة. الغريب في مجلس التعاون الخليجي أنّه رغم كون التحديات واحدة، والمشتركات ضخمة، والمقدرات قوية -الأمر الذي من المفترض أن يسهم في تعجيل تقارب دول المجلس وأن يساعد في تسريع إنجاز المشاريع المشتركة- إلا أننا وبالرغم من هذا كله نجد البطء في الإنجاز والتنفيذ هو سيّد الموقف، حتى ليكاد أن يكون علامة مسجلة لأداء المجلس.المواطن الخليجي لا يُعنى كثيراً بما جاء في الموقع الرسمي للأمانة العامة للمجلس من التعاون في مجال المرور أو تبادل المذيعين بين الإذاعات الخليجية! ولكنّه ينتظر من قادته الممثلين في المجلس الأعلى ومن مجلس وزراء المجلس الممثل بوزراء الخارجية ومن أمانة المجلس أن يمضوا قدماً في خطط التنمية المشتركة بكافة مجالاتها، وأن يوحّدوا العملة النقدية، وأن يفتحوا السوق المشتركة، وأن يجد المواطن آثار هذه المشاريع ونحوها على حياته اليومية، ولكنّ لسبب ما لم تزل خطوات التقدم إلى الأمام في أغلب المشاريع الخليجية تسير بسرعة لا تنافس إلا السلحفاة! ثمة ملفات خليجية مهمة لم تزل أوراقاً وملفات تشكو منها أدراج المكاتب، وهي عطشى لتنطلق لرحابة الواقع ومتلهفة لتشرق عليها شمس التطبيق، أفكار كبرى ومشاريع مهمة وقرارات مؤثرة كل هذه موجودة أصلاً في المجلس، ولكنّها تنكسف دائماً في بطون اللجان، واللجان المنبثقة عن اللجان، وهكذا دواليك في دائرة حلزونية من البيروقراطية المعيقة، وهذه اللجان التي من المفترض أن تكون مهمتها تسهيل تنفيذ المشاريع وتطبيق القرارات وتحويل الأفكار إلى خطط عملية، نكتشف أحياناً أنها تقوم بالنقيض فتضع العصيّ في الدواليب، وتؤخر وتؤجل وتسوّف، ولا ندري إلى متى! دول الخليج تشعر بخطر كبير يهددها على الضفة الأخرى من الخليج، حيث إيران ومشروعها النووي المثير للجدل، والذي تتخوّف منه دول الخليج وتشاطرها الرأي كثير من دول العالم، ما يحتمّ دول المجلس أن تتخذ خطة استراتيجية موحدةً لمواجهة هذا الخطر، تجتمع فيها المواقف والرؤى والتوجهات بدلاً من التشتت في ملفٍ لا يحتمل التأجيل ولا الفرقة. من القمم البيضاء لجبال الهندوكوش في أفغانستان إلى اليمن وجغرافيته المعقّدة إلى سهول القرن الأفريقي حيث الصومال الضائع والسودان الغارق في المشاكل والمهدد بالتقسيم، إلى الشمال حيث العراق المضطرب والمكتسح ولبنان المهيض الجناح وشبه المختطف، هذه كلّها تمثّل عمقاً استراتيجياً لمجلس التعاون، وما يجري فيها وعليها وحولها يجب أن يكون من صميم اهتمام المجلس، فما يجري في هذه المناطق الشاسعة يؤثر على المجلس ودوله بشكل أو بآخر، وما لم تكن للمجلس خطة استراتيجية لمواجهة كل الاحتمالات ولفرض مصلحة المجلس، فإنها ستظلّ تخسر المرة بعد المرة، خاصة مع وجود لاعبين أقوياء يتناهشون المنطقة ويزرعون الفرقة والفوضى خدمةً لمصالحهم الاستراتيجية. ولئن كان الحديث في قمم ماضية عن أهمية اليمن الذي يقع في جنوب الخليج بخزان بشري ضخم، وتخلف معيق، يشكل تهديداً لاستقرار الخليج، فإن الواقع اليوم يشهد بتحوّله لما يشبه البركان، فـ"القاعدة" تسرح فيه وتمرح وتهدد الخليج والعالم، و"الحوثيون" بأجندتهم الخارجية يثيرون القلاقل في كل عام تقريباً، وها هي بوادر اصطدام بين الطرفين تلوح في الأفق، والحكومة هناك لا تعاني من الاضرابات إلا بقدر ما تعاني من الفساد، ما يؤكد على أن أخذ موضوع تطوير اليمن باهتمام أكبر من قبل مجلس التعاون ليس ترفاً بل ضرورة. هذا في الشأن الخارجي والإقليمي، وقل مثل هذا في الشؤون الداخلية لدول المجلس بملفاتها شديدة الأهمية كالشؤون التعليمية والعسكرية والتجارية والتنموية بشكلٍ عامٍ، والتي لم ترقَ بعد للمستوى المطلوب –باستثناء الشأن الأمني- خاصةً إذا استحضرنا أن ثمة تجمعات إقليمية عالمية بدأت بعد المجلس بعقود، وها هي تتقدم عليه بأشواطٍ كبيرةٍ، ولا أدلّ على هذا من الاتحاد الأوروبي وإنجازاته المعروفة، رغم أن المجلس الخليجي وعوائقه التي يواجه لا تمثل شيئاً يذكر مقارنةً بالعوائق التي تواجه الاتحاد الأوروبي. حين يريد المجلس الرقي بطموحاته ومكانته فعليه أن يقارن نفسه بالأفضل دائماً، كالاتحاد الأوروبي ونحوه، ولكن ما نشاهده اليوم أن الكثير يقارنون المجلس بالأسوأ حتى يبدو أفضل حالاً مما هو عليه، فيقارنونه بالجامعة العربية مثلاً للتدليل على فشلها ونجاحه، بينما الصحيح هو أن هكذا مقارنة إنما تتم بين سيئ وأسوأ، فهي بالتالي لا تحفّز على إبداع ولا تدفع باتجاه تطوير، وإنما دورها التسكين والتخدير. بحسب الموقع الرسمي للأمانة العامة للمجلس، فإن المساحة الإجمالية هي 2423.3 ألف كم مربع، وعدد السكّان 38.6 مليون نسمة، والناتج المحلي 898 مليار دولار، وما تحكيه هذه الأرقام مشجعٌ للتميّز وداعمٌ للتفوّق، لو تحركت آليات التعاون بشكل أكثر سرعةً وإحكاماً، ما سيضمن للمجلس مزيداً من القوة الإقليمية والتأثير العالمي. ثمة ملاحظة جديرة بالرصد في البيانات الختامية للدورات السابقة للمجلس، وفي التقارير السنوية الصادرة عن الأمانة العامة لمجلس التعاون، وهي التركيز على الإيجابيات وتضخيم النجاحات والإنجازات، مع غض الطرف بشكلٍ شبه كامل عن مواطن الاختلافات فضلاً إيضاح السلبيات وإبراز الإخفاقات، وكأن المجلس معصوم من الخطأ والتقصير! أحسب أنّ إبراز الخلافات وتوضيح نقاط القصور وإظهار مواطن ومواضع الخطأ بكل ما تحمله من شفافية حضارية أمر إيجابي يصبّ في مصلحة تداول الرأي حولها ومحاولات إصلاحها، بما يشمله من إشراك المراقب الخليجي من خارج دوائر المجلس الرسمية في محاولات السعي لإصلاح الخطأ ودواء الداء، والاختلاف من قبل ومن بعد أمر طبيعي بين دولٍ لها كياناتها المستقلة ومصالحها الخاصة ورؤاها المحلية، وهو ما حدث ويحدث على طول التاريخ والجغرافيا في تجمعات سياسية مشابهة، فلا عيب في نشر هذا بل المصلحة فيه أكبر وأظهر من التركيز على إيجابياتٍ لها مالها وعليها ما عليها. في الاجتماع حزم وفي التعاون قوة، والضعيف ضائع الحق في عالم الأقوياء، وبيد دول الخليج من عناصر القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية ما يمكنها من تثبيت أقدامها في عالم الأقوياء، ولئن كانت تحالفاتها قويةً فإن عليها أن تفرض قوّتها الذاتية في المنطقة حتى تضمن حقوقها وتحمي سيادتها وترعى مكانتها، لتبقى على الدوام ساعيةً لغدٍ أفضل ومستقبلٍ أزهى.