على الرغم من الضجة الهائلة التي خلفها نشر وثائق "ويكيليكس"، فإنها في الواقع لم تحمل أي معلومات جوهرية جديدة. صحيح أنها تضمنت كثيراً من أمانات المجالس، وأحرجت الحكام والدبلوماسيين، ووضعت الولايات المتحدة في ورطة أخلاقية كبرى، إلا أنها في غالب الأحيان أخرجت للعلن ما كان معروفاً لدى الجميع. ومع ذلك لا يمكن التقليل من أهمية هذا الحدث الإعلامي التجسسي الكبير، الذي يمكن أن نقرأه في سياقات ثلاثة كبرى: السياق الأول يتعلق بالانفصام المتزايد بين الدولة القومية ومنظومة الاتصال العمومي. فعلى الرغم من حالة الديمقراطية التعددية وحرية التعبير والإعلام القائمة في البلدان الغربية العريقة، فإن الدولة المركزية احتفظت منذ تحرير الصحافة المكتوبة في القرن التاسع عشر وتحرير الإعلام السمعي البصري بعد الحرب العالمية الثانية بآليات الرقابة التقنية والقانونية على منظومة الاتصال العمومي. بيد أن الثورة الرقمية المعاصرة غيرت هذه الموازين في مستويين بارزين هما:تحطيم الحواجز التقليدية بين إنتاج المعلومة واستهلاكها، وتقويض قدرة السلطات العمومية على رقابة المعلومة وتقنين تداولها. وهكذا كثر الحديث عن "عصر الصحافة المعممة والمجانية"، وإنْ كانت هذه المقولة تحتاج للتمحيص. فمن الجلي أن الفضاء الإلكتروني ليس مجالًا مفتوحاً ومتاحاً لعموم الناس، بالنظر للقيود المترتبة على عوامل اللغة (80 بالمئة من المضمون العام في الشبكة العنكبوتية باللغة الإنجليزية التي يتكلمها أقل من عشرين بالمائة من سكان المعمورة) والإمكانات التقنية والاقتصادية (أغلب سكان الجنوب محرومون من خدمة الإنترنت)،كما أن السيولة الظاهرة للمعلومة الإلكترونية لا تلغي حقيقة وجود مصادر إنتاج وتوزيع هذه المعلومة. إنما ترمز إليه إذن تسريبات "ويكيليكس" ليس تحقق وهم "العصر الإلكتروني المفتوح"، وإنما تغير العلاقة بين المعلومة والسلطة، الذي هو من أبرز مظاهر العولمة في بعدها المتعلق بمحددات السيادة وأثرها على الكيانات القومية. السياق الثاني يتعلق بالظاهرة الدبلوماسية التي شهدت في السنوات الأخيرة تحولًا نوعياً في فلسفتها ومنطقها، وإن لم تتغير جذريا آلياتها العملية. تبلورت الدبلوماسية المعاصرة في إطار ضوابط النظام الدولي القائم مفهوم سيادة الدولة القومية وفكرة ضبط العلاقات الدولية بمدونة قانونية تحمي العالم من العنف والعدوان وتنظم روابط التعاون والشراكة بين بلدانه. من هذا المنظور، تحددت معايير الشرعية الدولية، التي قامت عليها الهيئة الأممية والمؤسسات المتفرعة عنها، كما تحددت قواعد إدارة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي خلال الحرب الباردة. إلا أن نهاية الحرب الباردة شهدت تغير التوازنات والرهانات الاستراتيجية التي قامت عليها الممارسة الدبلوماسية التي كانت مؤطرة بالصراع القطبي المندثر. وقد نجم عن نهاية هذه الحقبة تحولان أساسيان مترابطان هما: تبلور فكرة "السيادة المتقاسمة" خروجاً على قدسية مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان ذات السيادة، وانبثاق فكرة توسيع القانون الدولي وتمديد مجالاته ليشمل الميادين القيمية والمجتمعية والإنسانية بعد أن كان هذا القانون مجرد معاهدات واتفاقيات تحمي السلم العالمي. وهكذا ظهرت أنماط جديدة غير مسبوقة من الدبلوماسية مثل الدبلوماسية الدينية والثقافية تأكيداً لدور العاملين الديني والثقافي في العلاقات الدولية الجديدة، والدبلوماسية الإنسانية تجسيدا لمبدأ "واجب التدخل" لحماية حقوق الإنسان والأقليات المهددة بالإبادة الجماعية، والدبلوماسية الاقتصادية متجلية في تحول مجموعة الثماني الصناعية إلى مجلس إدارة للحكامة الدولية، والدبلوماسية الرياضية إبرازاً للمنزلة المتزايدة للبطولات والتصفيات الرياضية في العلاقات بين الأمم والبلدان... وما كشفت عنه تسريبات "ويكيليكس" هو المأزق الذي تواجهه الدبلوماسية الجديدة في العمل ضمن قوالب الدبلوماسية التقليدية. وإذا كانت حكومات بلدان العالم قد ذعرت من البرقيات الواردة من السفارات الأميركية التي تجاوزت في مناح كثيرة حدود اللياقة وضوابط العمل الدبلوماسي، إلا أن كافة الأطراف الدولية مستدرجة عملياً وبطريقة إرادية في قواعد اللعبة الجديدة.فالسفراء الأميركيون في عموم البلدان العربية الإسلامية وفي غيرها يتدخلون علنا – بتواطؤ ضمني من الحكومات - في تعقيدات الوضع السياسي الداخلي خصوصاً في البلدان التي تعاني من أزمات خانقة، والانتخابات في الكثير من البلدان صارت تنظم بإشراف دولي، وللدبلوماسية الأميركية دور محوري في تشكيل الائتلافات الحكومية في كثير من البلدان. وليس من المجدي إدانة الدبلوماسية الأميركية في شأن البرقيات المحرجة، بل المطلوب هو ضبط قيم وقواعد وآليات الدبلوماسية الجديدة في تجاه بناء شراكة دولية قائمة على الندية والإنصاف لسد الفراغ آلي نفذت منه السياسات الأحادية والتدخلات الانفرادية المدمرة. أما السياق الثالث فيتعلق بمنزلة السر في ممارسة السلطة. ففي تراث الحكمة السياسية الإنسانية تأكيد ثابت على أن الحكم والسر صنوان، وإن حفظ السر وتسييره من أدوات التحكم في الناس. وقد عبر "ميكيافيلي"عن هذا المبدأ بقوله في كتابه "الأمير":"إني على يقين أن الأمير، خصوصاً إذا كان جديداً في الحكم، لا يمكنه أن يمارس كل الفضائل، لأن مقتضيات حفاظه على الحكم تفرض عليه أن يقوم بأعمال مناوئة للإنسانية والأخلاق والدين. وذلك ما يلزم الأمير بأن يحرص أقصى الحرص إخفاء مقصود كلامه". ولم تتغير الأمور كثيراً في العصور الراهنة، رغم أن الديمقراطية التعددية تتأسس على منطق الشفافية والوضوح. بيد أن الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو"يبين لنا في أعماله حول السلطة والحقيقة، أن إرادة الحقيقة تستخدم غالباً أداة تسلط وتحكم، كما يبين أن الخطاب السياسي الغربي الحديث وظف تقنية الاعتراف المستمدة من القاموس اللاهوتي المسيحي في جهاز الرقابة والضبط، الذي عوض عهود القمع الجسدي الوسيطة. وما كشفت عنه وثائق "ويكيليكس" هو حدود الشفافية في المجتمعات الديمقراطية الراهنة، على الرغم من ما دعاه البعض بدكتاتورية الشفافية القائمة فيها أي إلزامية الانكشاف والتجلي حتى في ما يتعلق بالشأن الشخصي والحميمي. وكان "نتشه" يقول "إن أفضل أساليب التخفي هي المبالغة في الحديث عن النفس".