بعد قصف كوريا الشمالية لجزيرة كورية جنوبية في الأسابيع الماضية، لم يكن الرد الجنوبي مناسباً خاصةً أن ضحايا جنوبيين عديدين قد سقطوا قتلى وجرحى في الأراضي التي شهدت القصف. بعدها بعدة أيام قدم وزير دفاع البلد الـمُعتَدَى عليه استقالته لأنه لم يقم بواجبه كما يظن وبرر ذلك بأن أرواح الضحايا تستعجله على الاستقالة. الأمر حدث في الوقت نفسه في نيوزيلندا حيث استقال وزير التعدين بعد أن قتل انهيار منجم في بلاده 25 عاملاً، وكان الحدث مأساويّاً ومدويّاً في نفس الوقت، إلا أن الوزير لم يعفِ نفسه من تبعات ما حدث أمام شعبه وأمام دموع أهل الضحايا الذين لم يطالبوا أصلاً بأن يدفع أحد ثمن ما حدث لآبائهم وذويهم، ولكنه الإحساس بالمسؤولية وأن الأحداث المؤلمة في البلاد لا يمكن أن تمر بدون عقاب مادي أو معنوي، هكذا تعلم وهكذا هو منطق الحكم الرشيد. "نيلسون منديلا" الزعيم الكبير في جنوب إفريقيا اشترط لترؤس حكومة بلاده أثناء اضطرابات ما بعد إطلاق سراحه، أن يعتذر البيض من السود عن عقود الاضطهاد والفصل العنصري، وأن يعتذر السود من البيض للقتل العشوائي تجاههم بعد انهيار حكومة الفصل العنصري. وفي حالة استثنائية في المغرب العربي، قدم العاهل المغربي محمد السادس اعتذاره بعد أشهر من توليه الحكم لأهالي ضحايا سنوات العنف والاختطاف والسجن الممنهج في تلك السنوات التي عاشها المغرب منذ ستينيات وحتى ثمانينيات القرن العشرين، واختلط فيها حابل السياسة بنابل الأحقاد الشخصية وبصراع الأمم كذلك. وفي كل بلدٍ يكثُر فيه الاعتذار من المخطئ صدقاً أو شبهةً، هناك تحضر واستقرار وأمل وثقة بالنفس تنعكس على قادم الأيام كعمل مُبهر معطاء، وفي كل بلدٍ يستنكف المجرمون أو شبه المجرمين وحتى من تحوم حولهم الشبهات أو فقط من قاسى وتألم وصُدم من أفعاله ونشاطاته، إما بقصد أو بدون قصد، فإنني أكاد أجزم بأن ذاك البلد للتأخر وللشر المقيم في النفوس أقرب، ويحتاج لبرزخ من الزمان حتى يظهر وبقوة لا دافع لها عنفاً وانتقاماً وفوضى تأخذ الجميع.. كل الجميع إلى النهايات المأساوية. ولعل أغرب ما وجدته في تراثنا أن كلمة الاعتذار وطلب الصفح قبل أن توضع السيوف على الرقاب قليلة ونادرة. قلِّبوا في صفحات تراثنا وتمعنوا في الأدب المرسل وفي الشعر والأساطير، لن تجدوا إلا النـزر اليسير من كلمات الاعتذار والعفو. هناك قصيدة في أدبنا العربي اسمها "اليتيمة" لابن "زريق البغدادي" المتوفى في الأندلس سنة 420هـ، موجهة لزوجته التي تقطن في بغداد وتركها من أجل سراب الرزق.. فلم يفلح، فكتب هذه القصيدة معتذراً منها ومن معاندته للزمن.. وفيها يقول: قد قسم الله بين الناس رزقهم لا يخلق الله من خلقٍ يُضيعه لكنهم كلفوا حرصاً فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات يُقنعه والحرص في الرزق والأرزاق قد قُسمت بَغيٌ ألا إن بَغي المـرء يصرعه لا أكذبُ الله ثوبُ العذر منخرق مِني بفُرقتـه لكـن أُرقعـه إني أُوسع عُذري في جنايته بالبين عنـه وقلبي لا يوسعُهُ وأظن أن هذه القصيدة سُميت باليتيمة ليس لأن الشاعر لم يعرف نظم غيرها من القصائد، بل -والله أعلم- لأن فيها من الاعتذار وطلب الصفح ما فيها.. وهذا غريب في شعرنا وأدبنا العربي! ولا يغرنك الاعتذار طلباً لمنصب أو جاهٍ، أو الاعتذار خوفاً من مقتلة مُحققة، أو اعتذار فيه من الكذب ما فيه، بل إنني أعني الاعتذار الصادق الذي يحمل كميات لا حصر لها من مشاعر الندم والاعتراف بالخطأ الـمُفضي إلى التسبب في إيقاع الألم بالآخرين وتوالد أحزانهم. أذكر أنني كتبتُ مثل هذا المقال قبل سنوات في صحيفة أخرى غير هذه الصحيفة الغراء التي أكتب فيها الآن، وكنت أحزن على أمتنا وغياب بعض القيم العظيمة من حياتها اليومية مثل فضيلة الاعتذار، ولكنني وبتقادم الزمن عرفت أن المستقبل لا يحمل لنا كثيراً من الخير فيما يتعلق بفضائل الأمم. تذكر -عزيزي القارئ- ما سبق وقيل عن كتاب مُذكرات ظهر قبل عام، وادعى كاتبه الذي يمتهن مهنة المحاماة في بلد عربي، أن زعيماً عربيّاً أعدم قبل سنوات قد أملى أفكاراً عليه، وعلى الأمة أن تقرأه للاستفادة والعظة، والغريب أنني لم أجد في الكتاب الذي تتجاوز صفحاته مئتي صفحة، كلمة واحدة يعتذر فيها القائد الراحل لشعبه أو الشعوب العربية الأخرى التي تأذت منه بطريقة أو بأخرى. كانت إملاءاته وأحاديثه تبريراً لما وقع وتأكيداً على صواب الرأي، وأن الآخرين كانوا يتربصون به، فكان جزاؤهم ما وقع عليهم؛ وتشابه هذه المذكرات تلك الحلقات التي كانت على شكل مذكرات تاريخية قالها تلفزيونيّاً كاتب كبير في السن والمقام الصحفي، ففي تلك الحلقات سرد وثائقي من وجهة نظر الكاتب المشهور عن حقبة رئيس عربي آخر راحل كان له أثر كبير في تاريخ المنطقة العربية. ومن تلك الآثار حربٌ انتهت في ساعات قليلة، وكانت نتائجها احتلال مساحات كبيرة من الأراضي العربية ومقدساتها، ولا تزال أمتنا تدفع أثماناً لتلك الهزيمة حتى الآن، والغريب أن الأحاديث التلفزيونية الفضائية تلك لم تتضمن كلمة واحدة يعتذر فيها الكاتب الذي كان يرسم الخط الإعلامي للزعيم الراحل عن سنوات تلك المرحلة إعلاميّاً وفكريّاً وسلوكيّاً، ولم تتضمن كذلك نقلاً عن زعيمه اعتذاراً عن النهج الخاطئ قبل تلك الحرب المذلة، وما شاهدناه وسمعناه تأكيدات عن مؤامرات دولية وخطايا قيادات كثيرة.. سواه هو وقائده الذي ندعو له بالرحمة والمغفرة، وللكاتب الحي بعودة الوعي له، وتذكر أن الاعتذار عن خطايا المرحلة السابقة لن يعيد أرضاً ولن يمحو ساعة الإذلال القديم، ولكنه على الأقل اعتراف بأن الهزائم مثل الانتصارات، لها آباء وأمهات وأخوات كذلك! الاعتذار الصادق فنٌ لا تجيده إلا الأمم الحية التي تريد مناقشة ما حدث في الماضي، ومعرفة أين تقف حاضراً، وكيف سيكون المستقبل لو أن كلمة "إنني أعتذر" لم تُقل ولم يطالب بها أحد؟!