في ظل حقيقة أن تسعين في المئة من الطعام المستهلك في دولة الإمارات، مثلها في ذلك مثل معظم دول الخليج، هو غذاء مستورد، يصبح من الصعب التعرف على الأغذية التي تمت معالجتها بالإشعاع، وخصوصاً أن الكثير من منتجي الأغذية المعالجة بالإشعاع حول العالم لا يلتزمون بذكر هذه المعلومة على البيانات الغذائية المطبوعة على المنتج النهائي، وهذا ما حدا بجهاز أبوظبي للرقابة الغذائية لاستحداث برنامج للكشف عن الأغذية المعالجة بالإشعاع، حسب ما ذكر في ملتقى "يوم الإشعاع" الذي أقامه جهاز أبوظبي للرقابة الغذائية، ضمن فعاليات معرض الصناعات الغذائية، "سيال الشرق الأوسط"، الذي أقيم بأبوظبي مؤخراً. وبذلك يكون الجهاز هو أول هيئة رقابية تقوم بالكشف على الأغذية المعالجة بالإشعاع في الدولة، وضمن عدد محدود من الجهات الرقابية المعنية بهذا المجال في منطقة الشرق الأوسط. وتهدف عملية تعريض الغذاء للإشعاع، أو تشعيعه (Food Irradiation)، إلى قتل الجراثيم، مثل الميكروبات والفيروسات، والحشرات، التي قد تتواجد في الأطعمة، مما يمنع فسادها، ويحول دون انتقال الأمراض إلى البشر عند استهلاكها. هذا بالإضافة إلى أن تشعيع الطعام يطيل من فترة صلاحية المنتجات الغذائية، ويؤخر من اكتمال النضج، والتبرعم، والإنبات، في الفواكه والخضروات. وتحقيق هذه الفوائد، وغيرها، من خلال تعريض الطعام للإشعاع، يرى البعض أنه قد يحمل في طياته مخاطر صحية. ولكن، قبل الاستفاضة في مدى الفوائد المرجوة، وحجم المخاطر المحتملة لتشعيع الطعام، ينبغي أن نتوقف قليلاً عند الأسس العلمية لتشعيع الطعام. بداية، يتعين أن ندرك أن تشعيع الطعام لا يحوله في حد ذاته إلى مادة مشعة وإنما يحدث فيه تغيرات كيميائية بسيطة نسبيّاً فقط. وتتم هذه العملية في أماكن خاصة ومجهزة، من خلال تعريض الطعام لأشعة متأيّنة، مثل أشعة "جاما" والأشعة السينية، وهو ما تنتج عنه تغيرات جزئية وتلف في الحمض النووي الأميني (DNA) للجراثيم، يعيقها عن الاستمرار في التكاثر، ويحد من إفرازها للسموم، ويمنعها من التسبب في تلف الطعام. وهو ما ينطبق أيضاً إلى حد كبير على الحشرات، حيث يتسبب تعرضها للإشعاع في موتها، أو على الأقل فقدانها لقدرتها على التكاثر وزيادة أعدادها. أما النباتات من خضروات وفواكه فيؤخر تعرضها للإشعاع سير العملية الطبيعية التي تؤدي إلى نضوجها، ويعيق قدرتها على الإنبات وتكوين البراعم. وهو ما يعني أن تشعيع الطعام يهدف في جوهرة إلى حماية الطعام من التلف، وزيادة فترة صلاحيته، وتخليصه من الجراثيم والميكروبات المرَضية، وتأجيل نضجه، مما يسمح بنقله وتوزيعه بين مناطق العالم المختلفة، قبل أن يصيبه التلف. ومثل هذه الفوائد جعلت تشعيع الطعام ممارسة مشرعة، ومرخصاً بها، في أكثر من ستين دولة حول العالم. ولكن في ظل المخاوف التي تثار حول الآثار الصحية لاستهلاك الأطعمة المشععة، وخصوصاً على المدى الطويل، نجد اختلافاً واضحاً بين الدول في التشريعات المحددة لجرعة الإشعاع، وطريقة التشعيع، ونوع الأطعمة المسموح بتعريضها لهذه العملية. ففي الولايات المتحدة مثلًا يستخدم التشعيع على اللحوم الطازجة والمجمدة لقتل البكتيريا، كما يستخدم أيضاً على الأعشاب، والفواكه والخضروات لقتل الحشرات الموجودة فيها، وتأخير نضجها. أما في أوروبا، فقد قصرت تشريعات الاتحاد الأوروبي التشعيع على الأعشاب والتوابل فقط، مع السماح لكل دولة من دول الاتحاد بوضع الحدود والأنواع الخاصة بها. وفي جميع الدول، تنص السياسات الدولية، على ضرورة أن يذكر على بطاقة بيانات المنتج النهائي، ما إذا كان قد تم تشعيعه، وهي السياسة التي لا يلتزم بها الجميع، وتشكل مشكلة للدول التي تعتمد على استيراد الغذاء في تلبية الجزء الأكبر من احتياجاتها الغذائية. وعلى رغم الفوائد المرجوة من تشعيع الطعام فلا زال يحيط به الكثير من الشكوك والرفض المبني على المخاوف -الحقيقية أو الافتراضية- من قبل المستهلك. وأحد أسباب هذا الرفض هو الاعتقاد السائد بأن شركات توزيع وتصنيع الطعام تلجأ إلى الإشعاع للتغطية على ممارساتها السيئة ومعاييرها القذرة في تعاملها مع الطعام في الأساس. فيمكن مثلاً تجاهل إجراءات النظافة والسلامة في مصنع ما لتجهيز الطعام بحيث يصبح من الأكيد تلوث المنتج النهائي بالميكروبات وغيرها من القاذورات، ولكن في النهاية وبعد تعريض الطعام للإشعاع يصبح غير ضار صحيّاً وتسقط أية مسؤولية قانونية عن المصنع، وإن كان ذلك لا يسقط حقيقة أنه كان ملوثاً من البداية إلى النهاية بالقاذورات. وتزداد تلك الشكوك عندما يصل الموضوع إلى تعقيم البهارات والحبوب مثل القمح والأرز بهذا الأسلوب. فعلى عكس اللحوم والدواجن يفترض في مثل تلك الحبوب ألا تتعرض للفساد بسهولة، ولذا فلابد أن نتساءل: ما الذي تعرضت له تلك الحبوب والبهارات، بحيث أصبح من غير الممكن تناولها دون (تعقيمها) بالإشعاع؟ وتأخذ قضية تشعيع الطعام بعداً خاصّاً عندما يتعلق الأمر بتوفير كميات كافية من الطعام، ودرء شبح المجاعات. فمن المعروف أن جزءاً لا يستهان به من الناتج الغذائي العالمي يتلف ويضيع هدراً، في الوقت الذي تعاني فيه أعداد كبيرة من البشر من الجوع وسوء التغذية. وهذا الجانب، بالإضافة إلى الفوائد سابقة الذكر، يحدونا إلى عدم إغلاق الباب على عملية تشعيع الطعام إجمالاً، وإنما ضرورة السعي إلى تقنينها وتنظيمها، من خلال التشريعات والقوانين التي تسمح لنا بجني فوائدها، وفي الوقت نفسه تجنب سلبياتها.