تلاحقت التطورات والأحداث سراعاً في ساحل العاج منذ إجراء الشوط الثاني لانتخاباتها الرئاسية، يوم الأحد الماضي، وسط أزمة سياسية خطيرة أدخلت البلاد في حالة من الشلل شبه كاملة، ويخشى أن تشعل الحرب الأهلية مجدداً هناك. فأول أمس السبت أدى الرئيس المنتهية ولايته، لوران غباغبو، اليمين الدستورية كرئيس للبلاد في ولاية جديدة مدتها خمس سنوات، بعد أن سماه المجلس الدستوري باعتباره المرشح الفائز في انتخابات الرئاسة بنسبة 51 في المئة من الأصوات. وقبل ذلك كانت اللجنة العاجية المستقلة للانتخابات قد أصدرت، يوم الجمعة، تقريرها المتضمن فوز المرشح الحسن واتارا بنسبة 54 في المئة من الأصوات، حيث بادر واتارا إلى إعلان نفسه رئيساً، وقد اعترف به رئيس الحكومة القائمة، وبدأت تتقاطر عليه تهاني أمين عام الأمم المتحدة ومفوض الاتحاد الإفريقي وقادة الدول الكبرى. والحسن واتارا هو سياسي عاجي درس الاقتصاد في الولايات المتحدة، وعمل بصندوق النقد الدولي وترأس حكومة بلاده في أوائل التسعينيات. لم يغب اسمه عن تطورات الأزمة التي عرفتها البلاد عقب وفاة الرئيس الأسبق هوفيت بونييه، بل إن إقصاءه من الترشح للانتخابات الرئاسية كان سبباً رئيسياً للحرب الأهلية هناك، وقد خاض الشوط الثاني لانتخابات الرئاسة الأسبوع الماضي بوصفه مرشح المعارضة. ولد "الحسن درامان واتارا" عام 1942، في "ديمبوكرو"، المدينة التاريخية الواقعة بوسط البلاد. وكان والده "درامان" (عبدالرحمن) تاجراً ناجحاً، أما جده الأكبر "سيكو (الشيخ) واتارا" فهو مؤسس سلطنة كونغ في مطلع القرن الثامن عشر، وهي سلطنة إسلامية قامت في الشمال الغربي لساحل العاج وعلى أجزاء من مالي وبوركينافاسو، قبل أن يقوضها الفرنسيون في نهاية القرن نفسه. حصل الحسن على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا، وأصبح خبيراً اقتصادياً في صندوق النقد الدولي بواشنطن من 1968 إلى 1972. وفي الفترة بين عامي 1973 و1984 شغل عدة مناصب في البنك المركزي لمجموعة دول غرب إفريقيا، قبل أن يعود للصندوق كمدير لإدارة إفريقيا. لكنه ترك الصندوق مرة أخرى في عام 1988 ليصبح محافظاً لبنك مجموعة غرب إفريقيا، وهو المنصب الذي بقي فيه حتى عام 1990 حين استدعي لحل الأزمة الاقتصادية التي ضربت ساحل العاج، حيث ترأس لجنة وزارية مختلطة لتنسيق برنامج التثبيت والإنعاش. وفي العام التالي تم اختياره لتولي رئاسة الحكومة، فاتبع سياسة صارمة لإدارة الموازنة وضبط الصرف، واستطاع استعادة ثقة الممولين والشركاء الأجانب. لكنه أُقيل من منصبه في عام 1993 فعاد إلى صندوق النقد الدولي وأصبح نائب مديره العام، قبل أن يستقيل في عام 1999 معلناً نيته الانخراط مجدداً في الحياة السياسية لبلاده. ويحظى واتارا بشعبية واسعة في شمال البلاد، وبمؤيدين أغلبهم أعضاء في "حزب تجمع الجمهوريين" الذي تأسس عام 1994 على يدي النائب البرلماني "دجينيه كوبينا"، قبل أن يترأسه واتارا نفسه في عام 1999. والمنعطف الأكثر خطورة في حياة واتارا السياسية وفي تاريخ ساحل العاج معاً، هو قانون الانتخابات الصادر عام 1995، والذي يشترط في مرشح الرئاسة أن يكون من أبوين عاجيين، وقد أراد منه الرئيس الحاكم حينئذ، هنري كونان بيدييه، استبعاد واتارا من الانتخابات الرئاسية في أكتوبر من العام نفسه، والتي قاطعها واتارا ومعه غباغبو. لكن بيدييه أطيح به في نهاية عام 1999 على يدي الجنرال "روبرت غي" الذي أطلق السجناء السياسيين، فعاد واتارا من باريس وشارك حزبه في حكومة شكلها العسكريون، بينما قاطعها حزب "الجبهة الشعبية العاجية" بقيادة غباغبو. لكن حين شكل العسكريون لجنة لتعديل بعض القوانين والمواد الدستورية، فإن المقترحات المتعلقة بجنسية والدي مرشح الرئاسة، فجرت الخلاف من جديد، خاصة بعد أن بدأ أنصار واتارا يتعرضون لأعمال قتل يومي على أيدي الجنود الحكوميين. وحينئد رأى واتارا ترشحه لانتخابات الرئاسة يُرفض مجدداً، فتعززت محفزات الحرب الأهلية، لاسيما عشية الانتخابات الرئاسية التي أوصلت غباغبو إلى السلطة عام 2000، حيث تمت تصفية 54 من قيادات "تجمع الجمهوريين" ينحدرون كلهم من الشمال. وفي سبتمبر 2002 أحكم التمرد المسلح سيطرته على النصف الشمالي من البلاد، لكن واتارا نأى بنفسه عن أي علاقة مع المسلحين، وانتقل في العام نفسه من أبيدجان للإقامة في منفاه الاختياري بباريس. وبعد اتفاقات السلام الموقعة بين غباغبو ومتمردي "القوات الجديدة" وهنري كونان بيدييه، وكان يفترض أن تقود إلى انتخابات رئاسية شفافة ومفتوحة للجميع في أكتوبر 2005، أعلن "تجمع الجمهوريين" في 15 يناير من ذلك العام، واتارا مرشحه لانتخابات الرئاسة، فعاد من باريس في 26 من الشهر نفسه لقيادة حملته الانتخابية، لكن غباغبو قام بتأجيل الانتخابات ست مرات قبل أن يسمح بها أخيراً، حيث جرى شوطها الأول يوم 31 أكتوبر الماضي، وحلّ خلاله واتارا في المرتبة الثانية بحصوله على 32 في المئة من الأصوات، بينما حلّ غباغبو في المرتبة الأولى بـ38 في المئة. وفي الشوط الثاني انضم مرشحو المعارضة لواتارا، وأهمهم الرئيس السابق بيدييه الذي نال 25 في المئة من الأصوات خلال الشوط الأول. وعلى ما يبدو فقد افترض غباغبو بأن "الوفاق" بين واتارا ودبييه ضعيف ولن يؤدي إلى تحالف بينهما في الشوط الثاني، كما أن استطلاعات الرأي التي أجرتها لصالحه مؤسسات فرنسية مختصة، غالطته حين منحته فرصة فوز ساحق في الشوط الثاني، لذلك فالراجح الآن أنه سيتشبث بالسلطة وسط دعم مناصريه في أبيدجان، وفي ظل تأييد الجيش له، فضلاً عن المجلس الدستوري الذي يتشكل من مؤيديه. وغباغبو قادر على المناورة وتحمل الضغوط الداخلية والخارجية، ومن غير المتوقع أن يترك الرئاسة ما لم يحدث انشقاق داخل المؤسسة العسكرية التي يتمتع بدعم قادتها. وإلى أن يحدث ذلك، يواصل واتارا التأكيد على أنه ليس رجل فرنسا في ساحل العاج كما يتهمه معسكر غباغبو، وأن بنوته الأيديولوجية لـ"أبو الأمة" هوفيت بونييه تحميه من تهم التعصب الطائفي، وأن مظلوميته في عامي 1995 و2000 كانت كارثة على البلاد، وأنه رجل المؤسسات الدولية وليس قائد تمرد مسلح... وأنه -قبل هذا وذاك- الفائز بانتخابات الأحد الماضي، وأن رئاسته لا تقترب إلا لكي تبتعد! محمد ولد المنى