منذ اليوم الأول الذي ظهرت فيه أول مجموعة من تسريبات ويكيليكس في الصحافة الدولية، والإسرائيليون يصيحون مهللين "هذا جيد لنا". وهكذا، وسعياً منها لاستغلال الوثائق التي تزعم أن بعض الزعماء العرب يكنون نوايا غير ودية لإيران، انطلقت الآلة الدعائية الإسرائيلية ملعلعة، فقال نتنياهو مزهوّاً: "لقد كانت منطقتنا أسيرة خطاب هو نتيجة 60 عاماً من الدعاية، التي تقدم إسرائيل على أنها أخطر تهديد"، زاعماً أن إيران باتت تحجب الموضوع الفلسطيني باعتبارها مبعث القلق الأول بالنسبة للعالم العربي. هذا بينما قال مسؤول إسرائيلي آخر مهم متشفيّاً إن "إيران اليوم أهم من فلسطين بعشر مرات" وإن الوقت قد حان لوضع "جهد السلام" على الرف وتركيز الاهتمام على إيران. وكانت ردة فعلي الشخصية الأولى على هذه الدعاية الرديئة "كم هو غبي (هذا الكلام)، وإن كان متوقعاً تماماً". أما ردة فعلي الثانية، فألخصها في العبارة "كم هو خطير! هذا الكلام". والواقع أن الإسرائيليين وأنصارهم في الولايات المتحدة بدأوا يعلنون نهاية القضية الفلسطينية منذ عقود؛ وأتذكر هنا مقالاً نشر في عقد الثمانينيات بدورية أميركية مشهورة زعمت أنه مع خسارة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وتركيز العرب على الحرب الإيرانية- العراقية، فإن القضية الفلسطينية باتت ميتة تقريباً في العالم العربي. وكان ذلك المقال قد كُتب قبل شهر على اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ولكن نظراً للفارق الزمني لم يتم نشر الدورية إلا بعد شهر على اندلاع الانتفاضة. كما ظهرت تحليلات خاطئة مشابهة في الوقت الذي كان يتم فيه تشكيل تحالف دولي من أجل تحرير الكويت من احتلال صدام حسين؛ ثم مرة أخرى بعد بضع سنوات على هجمات الحادي عشر من سبتمبر مع إعادة احتلال الضفة الغربية من قبل الإسرائيليين وتعرض ياسر عرفات للحصار في رام الله. وها نحن اليوم نسمع مرة أخرى تلك الدعاية نفسها الزاعمة إمكانية تجاهل قضية فلسطين! وفي كل حالة من الحالات آنفة الذكر، كانت التوقعات خاطئة ونتيجة لنوع من التفكير الرغائبي الإسرائيلي أكثر من كونها صادرة عن تقييم رصين ومتزن للحقائق السياسية في العالم العربي. فالرغبة في التشبث بالقش وتمني زوال موضوع فلسطين والقدس وأهمية هذين الموضوعين بالنسبة للعرب أمر معروف عن الإسرائيليين؛ ولكنه خطير وينم عن قصر نظر. صحيح أن العالم العربي في عقد الثمانينيات كان منشغلاً بالحرب الإيرانية- العراقية. وصحيح أيضاً أنه مع احتلال الكويت، كان ثمة قلق عميق من سياسات وتوجهات صدام؛ كما كان ثمة سبب وجيه ليشعر العرب بقلق عميق بسبب تهديد "القاعدة" وردود فعل إدارة بوش على الهجوم المميت على التراب الأميركي، تماماً مثلما أن هناك اليوم قلقاً متزايداً من السلوك الإقليمي للإيرانيين وتدخلاتهم في بعض ملفات المنطقة. ولكن أن يستعمل هذا القلق لاستنباط فكرة مؤداها أن بواعث القلق تلك تلغي القلق بشأن محنة الفلسطينيين أو مصير القدس هو مجرد أضغاث أحلام، وذلك لأنه مثلما تُظهر دائماً استطلاعات الرأي التي نجريها، فإن فلسطين ليست مجرد موضوع، بل هي قلق وجودي لا يوحد العربَ فحسب، وإنما يحدد ويميز إحساسهم بالتاريخ المشترك. وبمعنى حقيقي، فإنه يمكن القول إن محنة الفلسطينيين تمثل بالنسبة للعرب ما تمثله "الهولوكست" (المحرقة) بالنسبة لليهود عبر العالم. وتجاهل هذه الحقيقة هو استدعاء للكارثة، وتجاهل للحقيقة! إن هذا الإنكار الإسرائيلي الأحدث يستند إلى غطاء تم بناؤه من أجزاء ومقتطفات من ويكيليكس، لا تعدو في الحقيقة كونها مجرد إشاعات ونميمة -رسائل حول حوارات نقلت بدون سياق أو تحليل. ولذلك، فهي ليست المواد التي يمكن للمرء أن يبني عليها سياسة أو حتى قضية قوية. وعلى علاقة بهذا الموضوع، فقد عاتب مسؤول أميركي سابق معروف، بعد برنامج تلفزيوني بث مؤخرا،ً محاورَه الذي كان يضغط عليه من أجل تقييم بعض من أكثر تسريبات ويكيليكس إثارة للجدل؛ فسأل المسؤول محاوره عما إن كان سيقبل بأن يتم الكشف عن الحوارات التي تمت قبل تصوير البرنامج وبعده، متسائلًا كيف يعتقد أنها ستبدو وما إن كانت ستمثل وجهة نظر الشبكة التلفزيونية المعنية على نحو منصف. إن الفكرة التي أود نقلها هنا هي أنه سيكون من الخطأ محاولة بناء حجة استناداً إلى محتوى وثائق ويكيليكس المسربة. صحيح أنها تقدم إلهاء مثيراً للفضول والجدل، ولكن ليس أكثر من ذلك. وبالطبع، قد يشعر بعض الزعماء العرب بقلق كبير من طموحات إيران في المنطقة وتدخلها في العراق ولبنان وفلسطين؛ ولكن الانتقال من ذلك إلى افتراض أن الموضوع الفلسطيني قد تراجع إلى مرتبة أدنى بالنسبة لهؤلاء الزعماء العرب أنفسهم، أو أنه لم يعد مهمّاً بالنسبة لهم أو بالنسبة لشعوبهم هو افتراض غير صحيح، بني على أساس ضعيف وواهن. إن افتراض الإسرائيليين أن قلق العرب من إيران اليوم يطلق أيديهم للبناء في القدس وتجاهل مسؤولياتهم للقيام بخطوة بناءة نحو السلام هو أمر خطير وخاطئ في آن واحد؛ ولكن يبدو أن بناء الإسرائيليين لأغطية تسمح لهم بالشعور بأنهم يستطيعون تجاهل عواقب أفعالهم ليس سوى القصة القديمة ذاتها، وها نحن نسمعها مرة أخرى. غير أنه مثلما حدث في الماضي، سيمر هذا الإلهاء وستعود الحقيقة لتطل برأسها وتذكِّرنا بالمواضيع الجوهرية التي لا يمكن ولا ينبغي تجاهلها.