ينكبّ ديموقراطيّو أوروبا وليبراليّوها على دراسة الأسباب التي تقف وراء موجة اللاتسامح العاتية التي تضرب حاليّاً، موجّهةً شفرتها إلى المهاجرين المسلمين. والحال أنّ بعضهم بدأوا يتحدّثون بانزعاج بادٍ عن اختراق مفردات القاموس المتطرّف للّغة السياسيّة الديموقراطيّة المعتمدة. أكثر من هذا، ففي سبتمبر الماضي، أدّى القلق من تفشّي المواقف الشعبويّة واليمينيّة المتطرّفة والسلوكات الاجتماعيّة التي قد تلازمها، إلى تشكيل هيئة تضمّ تسع شخصيّات أوروبيّة بارزة، في عدادهم يوشكا فيشر، وزير الخارجيّة الألمانيّ السابق، وفلاديمير لوكين، مفوّض حقوق الإنسان في روسيا، وخافيير سولانا، الإسبانيّ الذي تقاعد العام الماضي بعد تولّيه الشؤون الخارجيّة للاتّحاد الأوروبيّ. وسوف تكون وظيفة تلك الهيئة دراسة التوجّهات الجديدة الخطرة وتقديم اقتراحات عمليّة لمحاصرة عدم التسامح في القارّة. والقلق لا يُعدم أسبابه الوجيهة: ففي السويد، مثلاً، والتي كانت تُقدّم كفردوس للاشتراكيّة الديموقراطيّة الناجحة، وللرأسماليّة الإنسانيّة، حقّق "الديموقراطيّون السويديّون" المناهضون للمهاجرين اختراقاً انتخابيّاً بإحرازهم، للمرّة الأولى، مقاعد في البرلمان. وفي هولندا، المشهورة تاريخيّاً بتسامحها وبإرث إيراسموس، أمكن بعد أشهر من التفاوض والمناورات السياسيّة، تشكيل حكومة أقليّة تعتمد لبقائها على دعم جيرت وايلدرز، قياديّ "حزب الحريّة"، والذي سيُضطرّ للمثول أمام المحكمة دفاعاً عن نفسه بسبب اتّهامه المحقّ بالتحريض على المسلمين. وفي النمسا ضاعف حزب اليمين المتطرّف الذي أسّسه الراحل يورغ هايدر نسبة المقترعين له، حيث وصلوا إلى 27 في المئة، فضلاً عن حلوله في الموقع الثاني في الانتخابات المحلّيّة لمدينة فيينا. ولم يعد ممكناً غضّ النظر عن أرقام ضخمة نسبيّاً تشير إلى مدى التمدّد الذي تحرزه تلك القوى المتطرّفة: ففي إيطاليا حصلت "رابطة الشمال" الانفصاليّة على 8،3 في المئة من أصوات المقترعين، علماً بأنّ المسلمين هناك لا يتجاوزون 1،7 في المئة. كذلك حظيت "الجبهة الوطنيّة" في فرنسا في آخر انتخابات عامّة بتأييد 11،9 في المئة من المقترعين، و"حزب الحريّة" الهولنديّ بدعم 15،5 في المئة. وكما هي الحال دائماً في مثل هذه الظاهرات، فإنّ اللامعقوليّة واللاعقلانيّة تحفّان بها: ففي ألمانيا، مثلاً، تبلغ نسبة من هم ليسوا مواطنين في الاتحاد الأوروبيّ قرابة 6 في المئة من السكّان، بينما لم يحظ "الحزب القوميّ الديموقراطيّ" المناوئ للهجرة إلاّ بـ1،8 في المئة من أصوات المقترعين. أمّا في السويد حيث تبلغ نسبة من ليسوا مواطنين في الاتّحاد الأوروبيّ 3،2 في المئة، فيحظى "الديموقراطيّون السويديّون" بتأييد 5،7 في المئة من إجماليّ الأصوات. وقصارى القول، وحسب صياغة صحيفة "فايننشيال تايمز" البريطانيّة، إنّ أحزاب اليمين الشعبويّ والمتطرّف تتقدّم على امتداد أوروبا، كما تعيد تشكيل الخريطة السياسيّة للقارّة بالاستفادة من تحريكها لمعاداة المسلمين والمهاجرين عموماً، ومن توكيدها على الهويّة المحلّيّة ذات الصفاء المزعوم. فإذا استمرّت الوجهة هذه، ومضت الأحزاب المذكورة في إحراز التقدّم، سيكون صعباً على الحكومات القائمة احتواء الضرر الذي ستعانيه صورة أوروبا ومصالحها في العالم الأوسع. ويزيد في تظهير تلك المخاطر تعاظم أكلاف الأزمة الماليّة، فيما الضغوط تتوالى على اقتصادي إيرلندا والبرتغال (بعد اليونان) اللذين باتا بأمسّ الحاجة للإنقاذ الخارجيّ، فيما يتراجع عموم الأداء الاقتصاديّ لأوروبا قياساً بالقوّة التي تبديها منطقة آسيا والمحيط الهادئ وبلدان الاقتصادات الناشئة كالبرازيل والهند وتركيا، فضلاً عن الصين بالطبع. على أنّ أوروبا ليست القارّة الوحيدة التي تتعرّض لمثل هذه الظاهرات. فالولايات المتّحدة، بدورها، تشهد انبعاثاً يمينيّاً وشعبويّاً سبق أن عبّرت عنه انتخابات منتصف الولاية. وقد يكون أشدّ إثارة للانتباه أنّ متطرّفي أوروبا الذين لا يملكون في الأحزاب المحافظة التقليديّة موقعاً كموقع متطرّفي أميركا الجمهوريّين، نجحوا في الانتقال من الهامشيّة السياسيّة وعنف الشوارع إلى احتلال مواقع مشروعة في اللعبة السياسيّة وإنتاج قادة برلمانيّين. ويُلاحَظ في هذا السياق أنّ بعض قادة اليمين التقليديّ والمعتدل، كالمستشارة الألمانيّة ميركل والرئيس الفرنسيّ ساركوزي، بدأوا يعتمدون لهجة أكثر تصلّباً حيال الموضوعات الشعبيّة التي أفاد منها خصومهم الانتخابيّون. فميركل أعلنت نهاية تجربة التعدّد الثقافيّ والعرقيّ، فيما حرّك ساركوزي مسألة "الهويّة الفرنسيّة" على نحو غير مسبوق. لقد تزايدت أعداد الهجرة إلى بلدان الاتّحاد في الشطر الغربيّ والأوسط من أوروبا بين عامي 1989 و2009، إلى 26 مليون مهاجر. وفي هذه الغضون طُرحت مسائل وملفّات عدّة دار أهمّها حول العناوين التالية: - بناء المساجد والمآذن ممّا جرى بشأنه استفتاء في سويسرا... - الحجاب والنقاب ممّا أثير في غير بلد أوروبيّ، لاسيّما في فرنسا. - مسؤوليّة الصواب السياسيّ عن كبت الاختلافات. - وبعد 11 سبتمبر 2001، ظهر من يربط الوجود الإسلاميّ في الغرب، من دون أيّ تمييز أو فرز، بالإرهاب. - ومؤخّراً أضيفت إلى الملفّ الكثيف أوضاع الأقليات المسيحيّة في العالم الإسلاميّ. - لكنّ الأهمّ هو ما بدأ يتردّد صداه مع الأزمة الاقتصاديّة منذ 2008: فقد قُدّم المهاجرون كعبء على دولة الرفاه وفرص العمل. وأياً كان الأمر، يبقى المدهش أنّ هذا الاهتمام الأوروبيّ بالمشكلة، وبتدارس عناوينها المؤثّرة، لا يترافق مع أيّ همّ جدّيّ مقابلٍ في العالم الإسلاميّ بمسائل تعني مسلمين أوّلاً وأساساً!