أعود بالذاكرة إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 التي هزت أميركا والعالم، يومها علقّت عليها بكلمات توقفت فيها عند نقطتين مهمتين فقلت: "... لم يعد ثمة برج عالٍ في العالم. وثبت أن التكنولوجيا ليست ملك أحد". لقد سقطت أبراج أميركا المالية والمعنوية تحت تلك الضربات، التي استخدم فيها الإرهابيون - أياً كانت هويتهم - التكنولوجيا التي توهمت أميركا أنها تحتكرها. اليوم، مع الموقع الإلكتروني ويكيليكس، نقف أمام المشهد ذاته، فالتكنولوجيا التي استندت إليها أميركا والتطور العلمي في الكمبيوتر ومتفرعاته، ومحاولات الإدعاء بالتفوق في هذا المجال، ثبت أنه غير صحيح. والدليل أن صاحب هذا الموقع استفاد أيضاً من التكنولوجيا، ومن "الحرية" وأكد أن العالم بلا "رقابة" الذي أرادته أميركا هو العالم الذي يدينها اليوم، ويخترق دبلوماسيتها وأسرارها وأهدافها في أكثر من منطقة في العالم وفي متابعة أكثر من حدث. المشكلة في العقل الأميركي "الرسمي"- إن صح التعبير- هي الاستقواء، واعتبار أن تلك الأمة مميزة استثنائية، وإن إدارتها هي الأقوى في العالم، وإن اقتصادها لا يهتزّ. وأنها الأمة المتفوقة والقادرة على فرض رأيها. وأنها أسقطت أنظمة عالمية كبرى وغيرّت مسار التاريخ ومعادلاته السياسية بمناخ الحرية والتفوق التكنولوجي في الفضاء وتحت البحار والأرض وعليها... هذا الأمر يحمل الكثير من المبالغة. وها نحن اليوم أمام أزمة اقتصادية خانقة وأمام برج يهوي في أميركا نفسها. وها هي أميركا بإداراتها المختلفة تواجه موقعاً إلكترونياً يفضح كل شيء في علاقاتها. فتقع في حال من الارتباك والقلق وتقوم قيامة إدارات سياسية في العالم. هذه تنفي وتلك لا تبالي لكن ثمة إحراجاً حقيقياً. فلا يمكن لأحد أن يستند إلى وثائق هذا الموقع في مكان أو في قضية ويبني عليها مواقفه ثم يرفضها في مكان آخر... لا شك أن ما جرى أثر على مواقف ومصالح وعلاقات أفراد بدول، أو علاقات دول بأخرى، أو مؤسسات دولية ببعضها البعض. نحن أمام حالة فريدة وجديدة. ويبدو أنها متطورة. وسنكون أمام فصول جديدة تحمل الكثير من المعلومات وتكشف الكثير من الأسرار، بغض النظر عن اجتهادات بعض السياسيين والدبلوماسيين في ما يقدمونه من معلومات أو يسجلونه من مذكرات أو رؤوس أقلام أو عناوين أو يكتبون من رسائل. يبقى أن ثمة شيئاًَ واقعياً تصعب مواجهته. عالم لم يعد فيه سرّ. ولست بحاجة لتنتظر خمسةً وعشرين عاماً أو أكثر لتطلع على وثيقة أو معلومة. هذا الأمر خلال سنة أو سنتين بات متاحاً أمامك. السؤال اليوم: أين الإدارة؟ أين الالتزام داخل الإدارة؟ من سرّب الملايين من الوثائق؟ هل ثمة من صورّها واحتفظ بها وسرّبها؟ لأي هدف؟ وبأي حق؟ هل الاستباحة قائمة إلى هذا الحد داخل الإدارة الأميركية؟ من يثق بها بعد اليوم؟ هل الأمر طبيعي أن تنشر وثائق ومعلومات عن الرؤساء والوزراء والسفراء والدبلوماسيين ورؤساء ومسؤولين في دول أخرى؟ ومن يضمن بعد اليوم أن تكون المعلومات صحيحة. أو لا يكون ثمة معلومات مفخخة؟ كيف ستكون علاقات الدول مع بعضها بعد اليوم؟ ماذا فعلت الإدارة الأميركية؟ ماذا فعلت الدول المعنية؟ كل ما في الأمر، أن صاحب الموقع الإلكتروني تعرض لإقامة دعاوى ضده وإصدار مذكرات توقيف بحقه بتهم مختلفة سابقة، لم تتحرك الأجهزة القضائية عند ارتكابها بالسرعة والاهتمام اللذين ظهرا اليوم. والسبب هنا واضح. لأنه فضح اليوم الأميركيين وغيرهم ذهبوا إلى محاكمته. وهذه بحد ذاتها إدانة لهم. لا يفهم من هذا الكلام أنني أتبنى كل شيء في هذه الوثائق، ولا أدري ما هو الصحيح فيها في الأساس وما نشر منها. أتعاطى معها كمعلومات تضاف إلى معلومات كثيرة تتعلق بأحداث كثيرة. لكن ربما تحمل جزءاً من الصحة في بعض القضايا التي نعرفها وتابعناها عن قرب. ثمة دول انزعجت، نفت، رفضت التعليق. لم تعطِ أهمية. حرصت على تبديد كل شيء يمكن أن يؤثر على علاقاتها بدول أخرى. لكن، في الواقع إسرائيل هي، الأكثر ارتياحاً حتى الآن في التعامل مع هذه الوثائق والمعلومات. وهذا الأمر طبيعي. إسرائيل هي فبركة بحد ذاتها. تبث الأخبار والمعلومات. تنشر كل شيء متى تشاء ولا تقيم اعتباراً لشيء. اليوم اختارت أموراً أو نقاطاً أو معلومات محددة لتدخل من خلالها على الواقع العربي والتلاعب بكثير من الأحداث والملفات والتحريض وكأنها أصبحت الحكم والمرجع. وهي في الوقت ذاته تندفع نحو بناء وتكريس "الدولة اليهودية" والتصويت على "القدس عاصمة للشعب اليهودي" والواقع العربي مأزوم. مهزوم. من الداخل وفي مواجهة الأحداث والتطورات. ليس ثمة مبالغة في تعليق وزير الخارجية الإيطالي على نشر الوثائق المذكورة عندما قال: "إنها 11 سبتمبر الدبلوماسية". نعم إنه سقوط لبرج الدبلوماسية وأسرارها. لم يعد ثمة أبراج عالية في العالم. بالأمس هوت أبراج واليوم يهوي برج الدبلوماسية والأسرار... الأول بفعل العمل الإرهابي والثاني بفعل التكنولوجيا ومن داخل بلد المنشأ ذاته وبالاستناد إلى صناعاته...إسرائيل استفادت من 11 سبتمبر الأولى، وهي تستفيد اليوم من 11 سبتمبر الثانية.