إن العمل الذي قام به موقع "ويكيليكس" بالتنسيق مع خمس من الصحف العالمية الكبرى شكل صدمة كبيرة لأصحاب القرار في العديد من دول العالم، فالكلام الذي كان يدور خلف الكواليس نشر على الملأ ولم تتمكن السلطات الأميركية من التصدي لهذا العمل سوى بالتنديد والشجب للقائمين بعملية النشر، والاعتذار لكل من نسب إليه قول أو ذكر بإساءة في الوثائق المنشورة. وقد وضعت الدول المتقدمة أنظمة صارمة للتعامل مع الوثائق السرية الخاصة، فبعضها يُنشر عادة بعد مرور ثلاثين أو خمسين سنة والبعض الآخر لا ينشر أبداً. وإذا ما تم تسريب شيء من الأسرار فالغالب أن أحد أجهزة الاستخبارات يكون وراء ذلك العمل، ولكن الوضع تغير الآن في ظل عولمة لا ندرك أبعادها ولا حدودها. فشاب أسترالي لا يتجاوز عمره ثلاثة وعشرين عاماً يقوم بعمل يعيد من خلاله بناء العلاقات بين الدول وبالذات الدول الحليفة ويجعل أمر الثقة فيما بينها شيئاً من الماضي. لقد التقط هذا الشاب همسات قادة الدول في عالم أسرارهم ونشرها ضمن وثائق لم تستطع السلطات الأميركية نفي صحتها وإنما حاولت العمل على التقليل من أضرار نتائج نشرها فحسب. إننا مقبلون على عالم بلا أسرار فكل ما يقال أو يعمل يمكن أن يكون متاحاً لكل مهتم يريد أن يعرفه ولن تستطيع الدول أو الأنظمة والقوانين أن تحول بين الناس وبين الوصول إلى المعلومة. إن وجود الفضاء الإلكتروني غيَّر قواعد العلاقة بين الدول بعضها ببعض، وكذلك علاقة الدول بشعوبها، بل لقد أوجد مراكز قوى تملك من السلطة والتأثير ما لا تملكه الحكومات، وما دخول العديد من الدول في مفاوضات مع بعض الشركات الكبرى مثل "مايكروسوفت" و"بلاك بيري" و"الفيسبوك" و"جوجل" وغيرها إلا دليل قاطع على ما تملكه هذه الشركات من سلطة وتأثير على عامة الناس، وكذلك مما تتيحه تطبيقات هذه الشركات وبرامجها لعامة الناس من سلطة وحرية وتأثير تتجاوز سلطة الدول. إن استيعاب هذه المتغيرات وحسن التعامل معها يعد قضية في غاية الأهمية كي تكون العلاقة بين الحكومات وشعوبها قائمة على الثقة والولاء والمحبة. إننا في عالمنا العربي بحاجة إلى أن نعيد بناء العلاقة بين السلطة وعامة الشعب وأن نعمل على أن نتعامل مع مشكلاتنا فيما بيننا بعيداً عن التدخلات الخارجية. وأن ندرك أننا نحن أعرف بمشكلاتنا من غيرنا وأن حلها لن يكون بيد غيرنا، ولا يعني هذا أن تتجاهل الحكومات معاناة الشعوب بهذه الحجة لأن عدم حل المشكلات التي يواجهها عامة أفراد الشعب هو الذي قد يفتح أبواباً أمام ضعاف النفوس للتواصل مع الخارج، ويجعلهم لقمة سائقة لكل مغرض أو متربص وبالذات في هذا العالم الإلكتروني الفسيح.