عبر المراحل المختلفة من التاريخ مر الطب والاستطباب بنقاط مفصلية غيرت من فهمنا لطبيعة الأمراض، وسبل الشفاء منها. فعلى سبيل المثال، أدى إدراكنا للدور الذي تلعبه الجراثيم من بكتيريا وفيروسات إلى تهاوي وسقوط الخزعبلات والخرافات المتعلقة بالعلاقة بين الأرواح الشريرة وبين الإصابة بالعديد من الأمراض، وفي الوقت نفسه فتح الباب على مصراعيه لعلاج تلك الأمراض من خلال المضادات الحيوية ومضادات الفيروسات. وهذا السيناريو يتكرر حاليّاً إلى حد كبير، مع زيادة إدراكنا لقوة العلاقة بين نمط أو أسلوب الحياة، والظروف الاجتماعية والاقتصادية، وبين طائفة متنوعة من الأمراض، وخصوصاً الأمراض غير المعدية والمزمنة. وما يقصد به تعبير نمط أو أسلوب الحياة هو مجموعة العادات الشخصية، وأشكال الأنماط السلوكية، داخل إطار من الظروف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للشخص. ومن أهم الأمثلة على هذه العادات والسلوكيات ذات العلاقة بالصحة: التدخين، ومقدار النشاط البدني وممارسة الرياضة، ونوعية وكمية الغذاء، وزيادة الوزن والسمنة، وشرب الكحوليات، وتعاطي المخدرات، والسلوك الجنسي، وغيرها. ويعتبر التدخين من أفضل الأمثلة لتوضيح العلاقة بين السلوك الشخصي وبين الحالة الصحية. حيث يتسبب التدخين حاليّاً في مصرع خمسة ملايين شخص سنويّاً، وتشير التقديرات المستقبلية إلى أنه بحلول عام 2020، سيقتل التدخين عشرة ملايين شخص كل عام، إذا لم يتم عكس الاتجاه الحالي المتمثل في الارتفاع المستمر في أعداد المدخنين. ومعظم هذه الوفيات سيكون بسبب سرطان الرئة، وهو أكثر الأورام الخبيثة انتشاراً وفتكاً بضحاياه، وهو المسؤول عن أكثر من 13 في المئة من مجموع حالات الإصابة، وعن 20 في المئة من مجمل الوفيات الناتجة عن جميع الأمراض السرطانية، وهي الوفيات التي يقع معظمها بين المدخنين. ويتأثر السلوك والعادات الشخصية بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية المحيطة، مثل نوعية وظروف السكن، ومدى توفر الرعاية الصحية الأولية، والقدرة الشرائية والمالية الضرورية للحصول على غذاء صحي متوازن، وللمشاركة في النشاطات الرياضية، وطبيعة ومخاطر المهنة أو الوظيفة، ومقدار ما تحمله من مخاطر بدنية أو ضغوط نفسية، بالإضافة إلى الظروف الاجتماعية المتمثلة في الوحدة والعزلة، أو الاضطهاد بناء على العرق أو الجنس أو الدين. وحتى الظروف المرتبطة بشبكة وطرق المواصلات العامة، وسبل وأماكن الترفيه، تلعب هي الأخرى دوراً في معدلات الإصابة بالأمراض غير المعدية. فعلى سبيل المثال، يشكل توفر طرق آمنة للسيارات، خفضاً ملحوظاً في معدلات حوادث الطرق، أحد أهم أسباب الوفيات في المجتمعات الحديثة، بينما يعتبر توفر وسائل الترفيه وممارسة الرياضة مثل الحدائق والنوادي الرياضية العامة مكوناً أساسيّاً في زيادة النشاط البدني لأفراد المجتمع، بما يساعد على خفض الوزن وعلى تجنب الأمراض الناتجة عن السمنة. وهذه الظروف والعوامل بالترافق مع الأنماط السلوكية سابقة الذكر، أصبحت تلعب دوراً متعاظماً في معدلات الإصابة بالأمراض غير المعدية، مثل ارتفاع ضغط الدم، وداء السكري، وأمراض القلب والشرايين، والأمراض السرطانية، والأمراض النفسية والعقلية، وتصلب الشرايين، والأزمة الشعبية، وأمراض الحساسية، وغيرها. وليس بالغائب أو الخفي مدى فداحة الثمن الإنساني الذي تحصده هذه الأمراض من أرواح البشر عاماً بعد عام، ويوماً بعد يوم. وهذا الثمن يتضح حجمه من حقيقة أن الأمراض غير المعدية التي تقتل حوالي 35 مليون إنسان سنويّاً، كان من الممكن تجنب 40 في المئة منها من خلال الوقاية من أسباب هذه الوفيات، كالذبحة الصدرية، والسكتة الدماغية، وغيبوبة داء السكري ومضاعفاته، وغيرها. وهو ما يعني أن الجنس البشري يواجه حاليّاً مشكلة صحية كبيرة، تزداد حجماً بمرور الوقت. وخصوصاً في ظل حقيقة أن الأمراض غير المعدية التي ارتبطت في الأذهان لفترة طويلة بالمجتمعات الصناعية والغنية، أصبحت تشكل عبئاً مرضيّاً يتزايد ثقله بمرور الوقت على كاهل شعوب الدول النامية والفقيرة. ولفترة طويلة، كان عبء الوقاية من الأمراض غير المعدية يقع في معظمه على كاهل نظم الرعاية الصحية، التي كانت غالباً ما يلجأ أفرادها لوصف العقاقير الطبية كالأدوية المخفضة للوزن ولمستوى الكوليسترول في الدم، بغرض الوقاية من أمراض القلب والشرايين، أو من خلال توفير المعلومات والإرشادات للأفراد بغرض محاولة تغيير السلوكيات والعادات الفردية غير الصحية. وهذه المهمة، التي ستظل نظم الرعاية الصحية الأولية تضطلع بها إلى حد كبير، أصبح من الضروري مشاركة قطاعات المجتمع الأخرى في تحقيقها، مثل المدارس والجامعات، والشركات الكبرى، وجهات التوظيف الرئيسية، وصناعة تصنيع وتعليب الأغذية والمشروبات من خلال خفض محتويات الأطعمة المصنعة من الملح والسكر والدهون المهدرجة. وهذا الاتجاه دخل بالفعل حيز التنفيذ في بعض الدول مثل بريطانيا، التي نشرت الحكومة فيها مؤخراً تقريراً فنيّاً، يقترح تغييرات جوهرية في تنظيم جهود الصحة العامة، وأساليب الوقاية من أسباب الإصابة بالأمراض غير المعدية، مثل التدخين والسمنة المفرطة. ويؤكد هذا التقرير على أهمية تضافر الجهود الفردية مع الجهود المجتمعية، وربما حتى اللجوء للتشريعات والقوانين، لضمان نجاح المحاولات الرامية لخفض الثمن الإنساني الناتج عن العادات والسلوكيات غير الصحية