يمثل الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الإنجازات التنموية والنهضة الشاملة التي حققتها دولة الإمارات العربية المتحدة، غاية يسعى إلى بلوغها بنات وأبناء هذا الوطن كافة، على اختلاف توجهاتهم الفكرية. وفي محاولة للمشاركة في هذه الغاية، نناقش معاً بعض القضايا الفكرية والمعرفية التي أراها جديرة بالاهتمام، وتساهم - في الوقت نفسه- في فتح آفاق جديدة تستشرف حدود هذه الغاية وتستجلي أهم أبعادها. وذلك من منطلق إيماني بأن هذه الغاية هي الكفيلة ببناء مستقبل أكثر أمناً يشارك في صياغته الجميع. وسنبدأ بالحديث عن أهم المجالات التي أراها جديرة بتعزيز قدراتنا المعرفية في مجتمع المعرفة والمعلومات ذلك المجتمع الذي أصبح فيه العلم والمعرفة المعيار الوحيد الذي يصنع للأمم والشعوب نهضتها ورقيها. وأصبحت قامة هذه الشعوب وقوتها لا تقاس بما تمتلك من أموال؛ بل بما تمتلك من علوم ومعارف. كما أصبحت هذه العلوم والمعارف - في عصر الثقافة الكونية- عابرة للزمان والمكان، ومتجاوزة لحدود الدول والمجتمعات، ولا تكف، هذه المعارف والعلوم، عن التحول والتبدل والتطور. ومن يتخلف عن مواكبة هذه التحولات والتطورات سيحكم على نفسه بالفناء ولن يكون له مكان سوى أحد أزقة التاريخ. ويتمثل المجال الأول، الذي يساهم في تعزيز قدراتنا المعرفية، في تأسيس نوع جديد من أنواع الشراكة، ألا وهو "الشراكة من أجل المعرفة". بحيث تسعى هذه الشراكة إلى وضع الثقافة والمعرفة في القلب من عملية التنمية. وتجعلنا شركاء فاعلين في تشكيل مجتمع المعرفة. ذلك المجتمع الذي ينهض على إنتاج المعرفة ونشرها وتوظيفها بكفاءة في مختلف مجالات الحياة. ويتمثل المجال الثاني، الذي يساهم بدوره، في تعزيز قدراتنا المعرفية، في تفعيل دور "القراءة ". بل إنني أرى أن تفعيل دور القراءة يمثل المقدمة الأولى والأهم في تأسيس الشراكة المعرفية وفي إقامة مجتمع المعرفة. ذلك لأن القراءة هي التي تفضي إلى تكوين "رأس المال المعرفي " الذي يعني - حسبما يشير تقرير المعرفة العربي للعام 2009 - مجمل الكفايات المعرفية التي يمتلكها أفراد المجتمع في مختلف ميادين المعرفة، والمهارات الذهنية بمختلف أشكالها، كما تشمل الكفايات الإنسانية والاجتماعية القائمة على المعرفة، وفي مقدمتها المهارات المتعلقة بالتواصل وإقامة علاقات إيجابية مع الآخرين والتعاون معهم، والعمل ضمن فريق، والمشاركة بفاعلية في قضايا الشأن العام، والريادة، والقيادة، والإدارة. فكيف يتأتى لنا ذلك من دون أن تصبح القراءة هي الزاد اليومي الذي يمكننا من تكوين رأس المال المعرفي؟ القراءة تعد مصدراً أساسياً من مصادر تشكيل الوعي وتكوين المعرفة التي تمكن الفرد من فهم وإدراك العالم المحيط به، وفهم مكوناته، والتعرف على وظيفة هذه المكونات وتفسير معناها، وتقديم إجابات للعديد من التساؤلات التي تشغل الإنسان في محيطه الاجتماعي.. فكل ما حولنا من أشياء وظواهر يبدو صامتاً وبلا معنى، ولن نكتشف معناه ونفك رموزه إلا بالقراءة. والقراءة - فضلاً عن ذلك - هي مفتاح كل العلوم، وهي طريقنا نحو الثقافة والمعرفة، ومصدر فاعليتنا في المستقبل، فالأمة التي لا تقرأ أمة لا يُخشى بأسها. كما أنها تمثل أول وأهم مراحل إنتاج المعرفة ونشرها. وهي الوسيلة الأكثر فاعلية في قياس مدى نجاح وصول خطط وبرامج إنتاج المعرفة ونشرها إلى الجمهور المستهدف. فإذا كان أحد المؤشرات المهمة لإنتاج المعرفة ونشرها يقاس بعدد الكتب المنشورة خلال فترة زمنية معينة في مجتمع معين، فإن المؤشر الأكثر أهمية - في رأيي - يجب أن يهتم بالتعرف على عدد الكتب التي تمت قراءتها بالفعل. الوصول إلى هذا الأمر صعب المنال لكن ذلك لا يحول دون التعرف على طبيعة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تحكم تلقي أو استقبال الإنتاج الثقافي من جانب الجمهور، والعوامل التي تحكم نجاح أو فشل عمل إبداعي أو ثقافي معين، وطبيعة العوامل المختلفة التي تؤثر في عملية القراءة. وهي المجالات التي باتت تعرف بــ "سوسيولوجيا التلقي" و"سوسيولوجيا القراءة ". ومما يدعونا للاهتمام بتفعيل عملية القراءة، والتأكيد على دورها الأساسي في تأسيس الشراكة المعرفية وتأسيس مجتمع المعرفة، ما تتعرض له من صعوبات وتحديات تشل من قدرتها على أداء هذا الدور على الوجه الأكمل. ويأتي على رأس هذه التحديات :- 1 – تراجع الثقافة المكتوبة خصوصاً في عصر الثقافة الكونية والإنترنت، ذلك العصر الذي طغت فيه ثقافة الصورة، وكأننا أصبحنا نعيش "عصر الصورة" بما تعنيه من هيمنة الثقافة الاستهلاكية، وتركيزها على المظهر والشكل، الأمر الذي ترتب عليه تراجع الدور الذي أصبحت تؤديه ثقافة الكلمة أو الثقافة المكتوبة. 2 - تواضع نصيب المواطن العربي من الكتب المنشورة في مختلف نواحي المعرفة، واستناداً إلى الإحصائيات المنشورة في التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية بلغ إجمالي الكتب التي نشرت عام 2007 حوالي 27809 كتب في حين بلغ عدد سكان الوطن العربي في ذات العام حوالي 332 مليون نسمة. وإذا وزعنا مجموع الكتب المنشورة سنوياً في العالم العربي على مجموع السكان يكون لكل 11950 مواطناً عربياً كتاب واحد. بينما لكل 491 مواطناً إنجليزياً كتاب واحد، ولكل 713 مواطناً إسبانياً كتاب واحد، أي أن نصيب المواطن العربي من إصدارات الكتب يمثل 4 في المئة من نصيب المواطن الإنجليزي و 5 في المئة من نصيب المواطن الإسباني. 3 - ارتفاع معدل الأمية الأبجدية في معظم دول الوطن العربي، حيث تصل إلى حوالي 48 في المئة في بعض المجتمعات العربية. والمفارقة أننا أصبحنا في عصر يقاس فيه معدل الأمية بعدم القدرة على التعامل مع أدوات العصر (الحاسب الآلي والإنترنت) بوصفهما الأدوات التي تمكن الإنسان من التواصل المعرفي في عصر ثورة المعلومات. كما أن هناك العديد من المجتمعات التي استطاعت أن تقضي نهائياً على الأمية الأبجدية. ولا شك أن هذه التحديات تعوق الدور المنوط بالقراءة في تكوين رأس المال المعرفي وفي تأسيس الشراكة المعرفية، ولا سبيل أمامنا سوى محاولة البحث عن حلول تفضي إلى إعادة الاعتبار لعملية القراءة، خاصة لدى الناشئة والأطفال، الذي هم نصف الحاضر وكل المستقبل، حتى تصبح القراءة لديهم "أسلوب حياة". لكن كيف يمكن - من وجهة نظرك عزيزي القارئ - أن تتحول القراءة إلى أسلوب حياة، وأن نجعلها سبيلاً لتعزيز قدراتنا التنافسية في عصر الثقافة الكونية؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د.شما بنت محمد بن خالد آل نهيان باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي