فاجأ رئيس الوزراء الإثيوبي كثيراً من دوائر السياسة والإعلام بتصريحاته عن "الحرب بين مصر وإثيوبيا من أجل المياه"، والتي تسود آثارها القرن الأفريقي نتيجة ما أسماه مساعدة مصر "لمجموعات متمردة". والملفت منذ البداية بشأن هذه التصريحات، أن تسعى إليها وكالة أنباء معنية أصلًا بالأحداث العامة، وليس بآراء الزعماء المفاجئة. كما يلاحظ القارئ أن ميلس زيناوي يتحدث بالتجهيل عن "مجموعات متمردة" بأكثر مما يشير إلى موقع وجودها. ويبدو لي أن الإشارة هنا لـ"مناطق صومالية "، ناهيك عن متمردي"الأورومو" وغيرهم داخل "الإمبراطورية الإثيوبية "، التي تكونت في القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي يلمح رئيس الوزراء الإثيوبي إلى "أمجاد" مصر خلاله، باعتبارها أفكاراً متخلفة. والذي أتصوره أن البلدين –إثيوبيا ومصر- يمران بظروف صعبة، وقد أجمعت معظم التحليلات مؤخراً، أن ثمة آلية لدى البلدين للتغلب على مآزقهما أحيانا بمعالجات ساخنة لمسائل أخرى. ولأني أتحدث الآن عن إثيوبيا وليس عن مصر التي تعمل أجهزتها أحيانا بنفس "الأسلوب" الأثيوبي- فدعونا نتأمل وقائع: أذكر مثلاً كيف أثار الامبراطور هيلاسيلاسي مسألة الحد من قوة البرلمان الأريتري شبه المستقل 1958 عندما اتجهت مصر للوحدة مع سوريا، تلاها إلغاء الفيدرالية تماماً مع إريتريا عام 1961 مع وقوع انفصال سوريا كفرصة لإظهار تحديه وضمان عدم إثارة مسألة شرعية هذا القرار بحكم العلاقة الخاصة بين مصر والإريتريين. وعقب ذلك بعدة أعوام، ومصر في قمة نفوذها الأفريقي منتصف الستينيات يقطع الإمبراطور علاقة الكنيسة الإثيوبية بالكنيسة المصرية، أو بالأحرى يغير شكل العلاقة العضوية إلى علاقتها الأخوية وكفى! وبالمثل عندما يتغير النظام الأثيوبي إلى "الثورية " أوائل السبعينيات، تكون مصر في الاتجاه المعاكس للرئيس السادات، إذ يذهب "الجنرال مانجستو" بعيداً مع السوفييت، يقابله الذهاب بعيداً في مصر مع الأميركيين والتعاون معهم فيما سمى مواجهة النفوذ الشيوعي في أفريقيا، ولتكون "الصومال" هي ساحة المواجهة، ومع استعراض القوى المتبادلة للنظامين في السبعينيات تتحدث إثيوبيا عن تحجيم تطلعات الصومال التي باتت "يمينية" متجهة إلى الجامعة العربية، وإلى التدخل مع الصوماليين في إثيوبيا، ويتحدث الرئيس السادات وقتها عن "الحرب مع إثيوبيا من أجل المياه"ويومها (تحديداً خلال عامي 1978/1977)، يصرخ عبد الهادي راضي، وزير الري أواخر السبعينيات- على ما أذكر من "شح المياه جذريا"، فاختلط ساعتها مطلب المياه، مع مطلب تأديب "النظام الإثيوبي بالحرب...كغطاء لا يخفي، لسياسة أخرى، ولم تشح المياه إلى هذا الحد، ولم تستمر نغمة أصحاب انتصار 1973 في ممارسة مشاعر القوة، إزاء التوجه الكامل لدبلوماسية السلام الشامل! لست في حاجة لتكرار إيضاح صورة القرن الأفريقي الذي بدت فيه إثيوبيا منذ مطلع القرن الواحد والعشرين تلمع كقوة إقليمية في أكثر من موقع. فهي قوة في تنظيم "الإيجاد" الذي ضم القرن الأفريقي مع شرق أفريقيا فيما بدأ أولاً كمنظمة لمحاربة الجفاف، ثم تطور كمنظمة للتنمية، ثم ليصبح تنظيماً سياسياً يعالج شؤون السودان، وصولاً لعقد اتفاق "نيفاشا"، وهي ذات قول في الصومال، حتى دخول القوات الإثيوبية إلى البلد العربي الشقيق- بين عامي2006-2008. وما تكاد تنسحب القوات الإثيوبية في الصومال التي بلغت عشرين ألفا حتى تعود فرق منها للتأديب أوالرد على بضعة آلاف صومالية لا نعرف مصدر قوتها حتى الآن. ثم ها هي تتحالف مع أوغندا وبوروندي، لاستمرار أعمال التأديب في الصومال الشقيق بآلاف من الجند، يتزايدون مع استمرار موقف الاتحاد الأفريقي دعماً للتدخل في ظروف التدهور المستمر في الصومال. ولا أظن أن ذلك يبرر كل هذا القلق الإثيوبي، كقوة إقليمية تنفرد بالتحرك هناك ما دام أشقاء الصومال لا يعبرون عن أي قلق تجاهه! لذلك كله عبر الموقف المصري الرسمي عن اندهاشه من تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي معرباً عن سياسته الودية الدائمة نحو إثيوبيا! والحق أن دوائر أخرى داخل الدبلوماسية المصرية أو مسؤولي ومثقفي قضية المياه، كانوا قد بدؤوا يتحدثون عن إمكان إعادة النظر في نقاط الخلاف التقليدية (الاتفاقات السابقة –والحقوق التاريخية...الخ) ليعتبر الحديث عن التعاون والتنمية المشتركة أساس المعالجة في ظل مفاوضات هادئة... وتصورت أن الدبلوماسي المصري ينتظر استجابة الدبلوماسية التقليدية الإثيوبية لتحركه الأخير، خاصة وقد نجحت تيارات ثقافية ودبلوماسية مصرية ذات وزن في التخفيف من آثار تصريحات"مندفعة" سابقة عن إمكان الحرب من أجل المياه. وقد شاركت بدوري في الدهشة من حديث رئيس الوزراء الإثيوبي، في الوقت الذي تثيرنا فيه طوال الأسابيع الأخيرة، تصريحات وزير الخارجية المصري بأن مصر تعيش تغيرات كبيرة وحديثه في العالم الآن بما يجعلها تنسى أو تتطلب نسيان أفكار الستينات التي عرفها مقر "خمسة أحمد حشمت بالزمالك". وبينما نحن نجادل هذه الدبلوماسية المصرية "الهادئة" والمستريحة لحالتها وإذ بنا نفاجأ بتصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي بما لا يمكن تفسيرها إلا بالقلق على الأوضاع في القرن الأفريقي وحوض النيل من جهة، وعدم ثقته من جهة أخرى فيما يتوفر له في الواقع من أوراق الاستقرار. لم يكن رئيس الوزراء الإثيوبي في حاجة لتوجيه هذه "الرسالة الحادة" إلى ما أتصور أنه موجه لمجمل النظم العربية إلا أن تفسر بقلقه من بعض التحركات لمعاونة السودان في مواجهة أزمته في الجنوب أو سعي مصر نفسها-الرسمية – الرأسمالية – إلى جنوب السودان مهما كانت طبيعة اختياره للوحدة أو الانفصال بل هناك مساع في اتجاه إريتريا كما هي في اتجاه الصومال وعدد من دول مبادرة حوض النيل لوقف نزيف التوتر المتوقع حول الاتفاق الجديد. ومعنى ذلك أن "القوة الإقليمية الإثيوبية " لن تبقى وحدها في الميدان، وقد تحاصرها حدة التوترات الداخلية القائمة فيها منذ الانتخابات الأخيرة "غير الشفافة" منذ عامين، حيث لم تستسلم القوى الرافضة لنتائجها حتى الآن! لذلك شعرت أن "الأوراق المضافة " للقوة الإقليمية الإثيوبية مؤخراً غير مطمئنة للرئيس الإثيوبي، بينما يجتمع في أديس أبابا المجلس الوزاري للمياه في إطار الاتحاد الأفريقي، ويجري التمهيد لاجتماع وزراء المبادرة، أو الري لو أمكن ذلك بعد هذه التصريحات، بل ويطرح الرئيس الأوغندي قمة لدول حوض النيل يتم عبرها "تسييس" القضايا بدلًا من بقائها متوترة في يد الفنيين، وتعوق إثيوبيا – حسب التقارير الصحفية-إتمام مثل هذه القمة. لا يبقى لتفسير الموقف الإثيوبي خلافاً لقلقها على "القرن" و"الحوض" إلا التفسير "بعجرفة القوة"، التي لم تنفع إثيوبيا في الصومال طوال أعوام، ولا مع إريتريا لعامين سابقين 1998-2000 ، رغم أن القوتين "الأعداء" لم يكونا في حجم القوة المتعجرفة ذات الجيش التاريخي المعروف، والثمانين مليونا من البشر من سكان إثيوبيا! لكن للقوة في إثيوبيا الحديثة مصادر يجب الانتباه لها أيضاً، وإنْ كانت لا تقبل توظيفها في أجواء التوتر. فالمليارات تتدفق على إثيوبيا لا لمجرد السدود التي يذكرها بعض الكتاب المصريين ولكنها لمشروعات عالمية لتوليد الطاقة يتنافس حولها الغرب والشرق ! وفي إثيوبيا، مع التوتر في السودان – فرص جذب الأموال الاستثمارية ذات الطابع الإنشائي والتجاري على السواء، مما جعل بعض التقارير الاقتصادية لمثل البنك الأفريقي وغيره تقدر معدل النمو في إثيوبيا بـ9 في المئة عام 2009، وتتوقع أن تكون أكثر من 10في المئة عام 2011 ! وهذه الأرقام تجعلها تنافس على المرتبة الأولى في أفريقيا. مع من ؟..مع الكونغو – مالاوي – أوغندا- أنجولا....الخ معنى هذا أن تتحول "عجرفة القوة "–ربما – إلى" محور ارتكاز" لمشار يع العولمة التي تجمع الصين مع أميركا والهند وتركيا في إثيوبيا! ولأني للأسف لم أجد أسماء الدول الكبيرة المعروفة وذات التاريخ التنموي في أفريقيا مثل مصر ضمن قوائم التنمية المتصاعدة التي تضم إثيوبيا وغيرها، فقد اكتفيت بإعادة قراءة تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي!