ستصل عن المحكمة الدولية اتهامات، غير معروفة منذ الآن على رغم التسريبات الكثيرة، لجلاء ما يمكن أن يكون "الحقيقة" في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق ورفاقه. ومنذ ستة شهور يعيش لبنان أجواء أزمة معقدة استهدفت استدراك تلك الاتهامات التي يتردد أن بعضها سيطال أفراداً من "حزب الله"، وطرحت أفكار راوحت بين المطالبة بإلغاء المحكمة وتأجيل القرار الاتهامي بذريعة أن التحقيق في الجريمة مسيَّس ويرمي إلى تلويث سمعة "حزب الله"، وبالتالي المقاومة ضد إسرائيل، بل إن هذا الحزب سيصبح في وضع حرج لبنانيّاً وعربيّاً. بعد جدل طويل، وضغوط شديدة داخلية مُورست على رئيس الوزراء الحالي سعد الحريري كي يتبنى التنصل من المحكمة ومن أحكامها، أصبح هناك اقتناع بأن إلغاء المحكمة مستحيل. فهي أنشئت بقرار من مجلس الأمن الدولي ولا تلغى إلا بقرار منه، أي بتوافق أعضائه ولاسيما الدول الكبرى. والإمكانية الوحيدة التي كان يمكن أن تتاح لذلك هي في إظهار توافق لبناني حقيقي على التوجه إلى مجلس الأمن لهذه الغاية، لكن العالم كله شهد كيف أن مثل هذا التوافق بدا بدوره مستحيلاً بفعل من افتعلوا الأزمة أنفسهم. أما تأجيل القرار الاتهامي فلم يعرف أحد كيف يمكن تحقيقه من دون ممارسة تدخل فعلي في عمل محكمة يفترض أنها مستقلة ومرتبطة بمرجعية وحيدة هي مجلس الأمن. قال المطالبون بالتأجيل إن المتدخلين في "تلفيق الاتهامات" كثر، فليتدخلوا إذن للتأجيل طالما أن الاتهامات ستفجر أزمة طاحنة في البلد. والواقع أن الاشتباه بوجود تدخلات راح يساعد أكثر من جهة حتى بين المؤيدين للمحكمة، خصوصاً أن إسرائيل ضاعفت الدس السياسي والإعلامي، وجعلت من الاتهامات مادة رئيسية في صراعها مع "حزب الله" وإيران. وعلى رغم أن واشنطن لم تتبع أسلوب الاستغلال المكشوف للمحكمة إلا أنها تقع أيضاً في دائرة الاشتباه. وما عزز ذلك أن التسريب الإعلامي راح يلعب أدواراً سامة، فمن تحقيق نشرته "درشبيغل" الألمانية إلى شريط بثته قناة "سي. بي. سي" الكندية إلى معلومات منشورة في "وول ستريت جورنال" و"لوفيغارو" وسواهما، تولّد اقتناع بأن التحقيق مخترق. لولا وجود تفاهم سعودي- سوري على ضبط وتيرة الأزمة لكانت انفلتت منذ منتصف سبتمبر بعدما اتخذ معارضو المحكمة سلسلة خطوات: تعطيل إقرار الميزانية إذا كانت تتضمن بنداً بالمساهمة اللبنانية في تمويل عمل المحكمة، تضخيم ملف شهود الزور ثم تعطيل أعمال مجلس الوزراء إلا إذا أحال قضيتهم إلى أعلى هيئة قضائية، وأخيراً تعطيل هيئة الحوار الوطني التي شكلت أحد أبرز بنود "اتفاق الدوحة" الذي أنهى أزمة عام 2006-2008 وهي كانت أدت عمليّاً إلى شلِّ الدولة ومؤسساتها. إلى هذه الخطوات جرى الترويج لسيناريوهات انقلابية تشي بنية السيطرة على الدولة وتنصيب حكومة بديلة تتولى التبرؤ من المحكمة وقراراتها. ولكن مثل هذه السيناريوهات يكشف البلد ويجعله عرضة لأخطار خارجية، خصوصاً أن إسرائيل تتربص وتسعى إلى انتهاز أي فرصة ضد لبنان. تواصل الجهد السعودي- السوري على رغم المصاعب التي واجهها، ويبدو أنه توصل إلى جملة مبادئ يصار الآن إلى وضع آليات عمل لتنفيذها تفاديّاً للأزمة، بل الأهم تحسباً لما بعد صدور الاتهامات. وبرزت في الآونة الأخيرة مواكبة عربية ودولية لهذا الجهد، لأن الجميع يشعر بأن الاضطراب في لبنان لن يبقى داخل حدوده، وأنه قد يستدرج حرباً في المنطقة لأسباب لا علاقة لها بالمحكمة الدولية. لكن الأخطر أن اتهام فريق بارتكاب أو المشاركة في ارتكاب الاغتيالات سيفجر صراعاً مذهبيّاً لابد أن ينعكس على التعايش بين مختلف الجماعات. وهذا ما لم يلتفت إليه الطرف المعني بالاتهامات بل أهمله وبدد الوقت في الإلحاح على إلغاء المحكمة. بعد التسريبات التي أوردها الشريط الكندي، أصبح مؤكداً أن القرار الاتهامي سيصدر قريباً، وقبل نهاية السنة على الأرجح، وإلا فإن أي تسريب جديد مرشح لقتل التحقيق وأسراره. ولا يمكن الركون إلى المساعي الخارجية وحدها، فللحوار الداخلي دور أساسي في تطبيق أي حل خارجي، وسيتطلب حتماً مثل هذا الحوار وعلى قاعدة عدم اللجوء إلى أساليب العنف والاحتكام إلى المؤسسات واحترام الدولة وعدم تعطيل السلطات... صحيح أنه امتحان صعب لكن اللبنانيين مضطرون لخوضه.