الزيارة التي أداها أردوغان في الأسبوع الماضي إلى لبنان لا شك أنها تمثل امتداداً للتطورات التي لحقت بالسياسة التركية تجاه المنطقة في عهده، وتلك التطورات بدورها جاءت تطبيقاً للرؤية التركية الجديدة في مجال السياسة الخارجية، والتي تحاول تحقيق المصالح التركية في عالم متغير من خلال رؤية جديدة صاغها انطلاقاً من هذه المصالح وزير الخارجية التركي كما يبدو بوضوح في كتابه "العمق الاستراتيجي". وتنهض هذه الزيارة دليلاً على أن عالم العلاقات بين الدول لا يعرف "عداوات دائمة"، ذلك أن المشرق العربي الذي حققت فيه تركيا اختراقات واسعة مؤخراً في كل من سوريا وفلسطين ولبنان هو نفسه ذلك المشرق الذي كان يموج بالرفض لممارسات الدولة العثمانية والشكوى من مظالمها وبالذات في المراحل الأخيرة من عمرها التي برز فيها العامل القومي بوضوح تجاه الولايات العربية التابعة لها، إلى الحد الذي نعلم معه أن حركة القومية العربية التي تصاعدت في الساحة منذ الربع الأول من القرن المنصرم، ولعبت دوراً أساسيّاً كمحرك للسياسة العربية في ذلك الحين قد وجدت بعضاً من أسسها في التميز عن رابطة الإسلام التي كيفت وضعها في إطار الحكم العثماني. ولكن مياهاً كثيرة تدفقت في نهر العلاقات العربية- التركية عبر العقود إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه الآن. ولا ريب أن السياسة التركية الجديدة تجاه المنطقة العربية قد حققت اختراقات مهمة منذ واقعة انسحاب أردوغان من الندوة التي جمعته بالرئيس الإسرائيلي بيريز في "دافوس" احتجاجاً على التحيز لإسرائيل من قبل إدارة الندوة، وكذلك كان الدور التركي في "أسطول الحرية" وما سقط من الأتراك من ضحايا بسبب التعامل الإسرائيلي الوحشي مع الأسطول وما أدى إليه ذلك كله من إحراج دولي شديد لإسرائيل -كان له التأثير نفسه على رفع أسهم السياسة التركية في البلاد العربية حتى رأينا الأعلام التركية ترتفع فوق المنازل من نواكشوط إلى غزة والأمر نفسه في صنعاء وغيرها. بل إن بعض الساسة العرب وكذلك المثقفين قد تحدث بحنين عن عودة مفهوم "دولة الخلافة"، وعن مسؤوليات تركية في هذا السياق تجاه المصالح العربية. ولا شك أن التطورات السابقة التي طرأت على السياسة التركية تجاه الوطن العربي تمثل تحولاً إيجابيّاً بكل المقاييس، فقد نقلت السياسة التركية من موقع العداء للحركة القومية العربية في خمسينيات القرن الماضي كما برز من اضطلاعها بدور رئيسي في محاولة ربط النظام العربي بمنظومة الأحلاف الغربية من خلال "حلف بغداد"، ومن حالة التحالف العسكري "الاستراتيجي" مع إسرائيل والعداء لسوريا إلى حد التهديد باستخدام القوة ضدها في تسعينيات القرن نفسه إلى الموقع الذي تقف فيه الآن. غير أن التقييم الدقيق لتلك التطورات وفهم طبيعتها يبقى ضروريّاً حتى لا يراهن بعض العرب على السياسة التركية كوسيلة لاسترداد الحقوق العربية في فلسطين وغيرها، كما راهن بعضهم من قبل على إيران في الاتجاه نفسه. وحقيقة الأمر أنه لا تركيا ولا إيران بمقدورهما، لاعتبارات داخلية وإقليمية وعالمية، أن تقوما بهذا الدور الذي يفترض أن يبقى منوطاً بالجانب العربي أساساً. ويلاحظ في تحليل الموقف التركي وفهم طبيعته أنه يقتصر حتى الآن على المستوى اللفظي، بل إن الطبيعة اللفظية للدور على هذا النحو تنسحب حتى على القضايا التي تمس المصالح التركية المباشرة، فقد رأينا أنه بغض النظر عن حرب التصريحات التي نشبت بعد مذبحة أسطول الحرية على سبيل المثال أن السياسة التركية لم تتجاوز في ردود أفعالها التصعيد الإعلامي، وحتى المطالبات الدبلوماسية من إسرائيل -وأحياناً التهديدات الموجهة لها- التي ميزت السياسة التركية في هذا الخصوص لم تنتهِ إلى شيء، وقد طالبت تركيا إسرائيل بالاعتذار حينذاك ولم تفعل، فلم يترتب على ذلك أي تصعيد دبلوماسي تركي جديد. وفي الزيارة الأخيرة التي أداها أردوغان إلى لبنان في الأسبوع الماضي ركزت الصحف العربية على ما ذكرت أنه إعلان أردوغان وقوف تركيا "بكل إمكاناتها" مع الحق في مواجهة إسرائيل، وقد ذكر هذا بالطريقة التي تعطي انطباعاً بأن أردوغان ينطلق من موقف نوعي جديد للسياسة التركية، ولذلك فإنه من الضروري تقييم ما ذكره بدقة. قال أردوغان ما نصه: هل ستدخل [إسرائيل] أرض لبنان بأحدث الطائرات والدبابات، وتقتل الأطفال والنساء وتهدم المدارس والمستشفيات، وبعدها تطلب منا أن نسكت؟ هل تستخدم أحدث الأسلحة والقنابل الفوسفورية والعنقودية وتدخل غزة، وتقتل الأطفال الذين يلعبون في المزارع وبعدها تطلب منا أن نسكت؟ هل تقوم بالقرصنة في البحر المتوسط، وتقوم بإرهاب دولي، وتقتل تسعة من المواطنين الأبرياء من الأتراك الذاهبين إلى غزة وبعدها تطلب منا أن نسكت؟ لن نسكت، وسنقول بكل إمكاناتنا إننا مع الحق". من الواضح للغاية أن السقف الذي حدده أردوغان للتصعيد التركي ما زال سقفاً "لفظيّاً"، ففي مواجهة كافة الجرائم الإسرائيلية السابقة وغيرها لا يعد بأكثر من "عدم السكوت"، والحقيقة أن ردود الأفعال التركية اللفظية في هذا الصدد "نارية" لكنها تبقى فعلاً "قوليّاً" إذا جاز التعبير، كما أن أردوغان قد ختم تصريحاته في هذا الصدد مشيراً (بالإضافة إلى عدم السكوت) إلى "أننا سنقول بكل إمكاناتنا إننا مع الحق". وعليه فإن كافة الإمكانات التركية تصب في النهاية في خانة "القول" وليس كما حاول البعض أن يوحي بغير ذلك. ولاشك أن هذه كلها مواقف تركية طيبة من وجهة النظر العربية، لكن لا يمكن أن يعوّل عليها للمساعدة في استرداد حقوق كما يتصور البعض، وليس في هذا ما يعيب السياسة التركية، فليست تركيا مطالبة بأن تفعل ما لا يفعله أصحاب القضية من العرب. والواقع أن "الافتتان" العربي بالسياسة التركية الجديدة قد يكون مرده التردي الذي أصاب أداء النظام العربي تجاه تحقيق أهدافه بصفة عامة ومواجهة التحديات والمخاطر الراهنة بصفة خاصة. كما يتضح على سبيل المثال من الموقف العربي تجاه قضية التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي والعجز حتى الآن عن تحقيق أي اختراق في هذا الصدد. إن الصورة إذن ينبغي أن تكون واضحة، فقد جعلت التطورات الأخيرة في السياسة التركية تجاه الوطن العربي من تركيا حليفاً سياسيّاً واقتصاديّاً للعرب، وهي تطورات إيجابية دون شك لا مانع من أن يحتفي العرب بها على النحو الذي يفعلونه الآن، ويعملوا على تعزيزها، لكن توقع ما هو أكثر من هذا من السياسة التركية في الظروف الراهنة هو الوهم بعينه، وإذا كان للسياسة التركية الحالية أن تشهد حركة جديدة في اتجاهات أكثر جذرية تجاه القضايا العربية فإن ذلك لن يكون ممكناً إلا إذا حدث تطور نوعي في الأداء العربي تجاه القضايا نفسها على النحو الذي يظهر "حدود" السياسة التركية ومن ثم يدفعها -إن أرادت أن تحافظ على مواقعها الحالية في الوطن العربي وتطورها- إلى رفع سقف مواقفها تجاه القضايا العربية عن السقف الحالي.