يتأثر قرار الفرد بالتوقف عن العمل والانتقال إلى مرحلة التقاعد بالعديد من العوامل والظروف مثل العوامل الاقتصادية، والظروف الاجتماعية، وأحياناً بالحالة الصحية للشخص. وعلى رغم أن تأثير هذه العوامل على بداية سن التقاعد، ومستوى المعيشة المتوقع بعد التقاعد، والتغيرات في العلاقات الاجتماعية المصاحبة لهذه المرحلة من الحياة، قد خضعت للكثير من الدراسات والبحوث، إلا أن تأثير التقاعد على الحالة الصحية، وعلى احتمالات الإصابة بالأمراض، لم يحظَ بنفس القدر من الاهتمام. غير أن هذا الوضع بدأ يتغير مؤخراً في ظل تزايد ظاهرة تشيُّخ المجتمعات، التي بدأت منذ عقود في شكل تغيرات ديموغرافية جذرية، نتيجة زيادة متوسط العمر بمقدار عقدين كاملين خلال الخمسين عاماً الأخيرة. فالشخص الذي يولد حاليّاً، يتوقع له أن يبقى على قيد الحياة بأكثر من عشرين عاماً، مقارنة بمن ولد عام 1950 مثلاً، وهو ما أدى بالضرورة إلى زيادة أعداد المسنين بشكل واضح بين أفراد الجنس البشري خلال هذه الفترة، التي تتمثل في حقيقة أن عدد الأفراد الذين تخطوا سن الستين قد بلغ أكثر من 650 مليون شخص في عام 2006، مع توقع بأن يتضاعف هذا العدد إلى 1.2 مليار عام 2025، ليصل إلى أكثر من ملياري شخص في عام 2050. وهو ما يعني أن نسبة لا بأس بها من البشر ستصبح خلال العقود القليلة القادمة ضمن تصنيف أصحاب المعاشات. وقد كانت الحالة الصحية لهؤلاء محل دراسة أجراها علماء جامعة ستوكهولم بالسويد، ونشرت في العدد الأخير في واحدة من أشهر الدوريات الطبية في العالم (British Medical Journal)، وخلصت إلى أن التقاعد المبكر ذو فائدة ملحوظة على صعيد الصحة العقلية والنفسية على الأقل. فمن خلال متابعة 14 ألف موظف على مدار 15 عاماً، وتقييم حالتهم النفسية وصحتهم العقلية، قبل وبعد التقاعد المبكر في سن 55 عاماً، اتضح بشكل جلي انخفاض مقدار التوتر في حياتهم بقدر كبير، وانخفض بقدر مماثل إحساسهم الدائم بالإرهاق والتعب، الذي كثيراً ما يكون عرضاً ناتجاً عن الضغوط النفسية المصاحبة للعمل. وبالإضافة للشعور بالتوتر والإرهاق الدائمين، وفي العام السابق للتقاعد، كان ربع العاملين يشتكون من أعراض اكتئابية، ومن أمراض مزمنة مثل السكري، أو أمراض القلب والشرايين، بين واحد من كل عشرة منهم. ولكن بعد التقاعد، وبخلاف الانخفاض الملحوظ في الشعور بالإرهاق النفسي والبدني، انخفضت أيضاً حدة الأعراض الاكتئابية بقدر ملحوظ. ومن المعروف أن التوتر الشديد أو المزمن، بسبب ظروف العمل أو أسباب أخرى، يؤدي بشكل مباشر أو غير مباشر إلى العديد من الاضطرابات العضوية والنفسية، حيث يزيد التوتر من إفراز هرمون الأدرينالين وهرمون الكورتيزون في الجسم، وهما الهرمونان اللذان يزيدان بدورهما من تسارع ضربات القلب، ومن معدل التنفس، ومن مستوى ضغط الدم، ويولدان نوعاً من الضغط العام على أعضاء وأجهزة الجسم. ولذا يحمل التوتر المزمن خطراً خاصّاً، حيث يعتبر سبباً رئيسيّاً خلف الإصابة بأمراض القلب مثل الذبحة الصدرية، والإصابة بالسكتة الدماغية، وارتفاع ضغط الدم، وغيرها من الأمراض والعلل. فعلى صعيد الصحة العقلية مثلاً، أثبتت الدراسات أن التوتر الشديد، ولفترات طويلة، يؤدي إلى الاكتئاب المزمن. ولكن إذا كان التقاعد المبكر ذا تأثير إيجابي على الصحة العقلية والنفسية، من خلال إزالته لسبب رئيسي للتوتر الناتج عن ضغوط العمل، ومن خلال درئه لشبح الاكتئاب، إلا أن تأثيره العام على الصحة البدنية أكثر تعقيداً مما يبدو للوهلة الأولى. ففي منتصف شهر أكتوبر الماضي، أجرى علماء جامعة ميرلاند بالولايات المتحدة دراسة، نشرت نتائجها في إحدى الدوريات المتخصصة في الصحة النفسية (Occupational Health Psychology)، وخلصت إلى أن التوقف التام عن العمل بعد التقاعد، سواء المبكر أو العادي، له تأثير سلبي على الصحة البدنية. فمن خلال متابعة أكثر من 12 ألف شخص من سن 51 إلى سن 61 على مدار ست سنوات، اكتشف العلماء أن المتقاعدين وأصحاب المعاشات الذين انخرطوا بعد تقاعدهم في وظائف مؤقتة أو وظائف جزئية الوقت (Part Time)، كانت معدلات الإصابة بينهم بالأمراض المزمنة الرئيسية أقل من معدلاتها بين أقرانهم الذين توقفوا تماماً عن العمل بعد التقاعد. كما أن نشاطهم العام، وقدرتهم على أداء المهام الحياتية الاعتيادية، كانا أفضل أيضاً. وحتى الفوائد النفسية والعقلية التي تجنى من التقاعد، كان قدرها أعظم بين المتقاعدين الذين انخرطوا في أعمال مؤقتة أو جزئية بعد التقاعد. وتظهر هذه الدراسات حقائق أساسية ومهمة للحفاظ على الصحتين، النفسية والبدنية، خلال سنوات ربيع العمر: أولاً، هي أن العمل في وظيفة تسبب التوتر والضيق المزمنين، قد يكون سبباً رئيسيّاً للشعور بالاكتئاب، ولمضاعفات صحية بدنية جسيمة. ثانياً، أن الحفاظ على النشاط الذهني والبدني بعد التقاعد، إما من خلال الانخراط في وظيفة مؤقتة أو جزئية، أو من خلال المشاركة في النشاطات الاجتماعية، أو من خلال التطوع في مجالات إنسانية، أو المساهمة في خدمة مجتمعية، يعتبر في حد ذاته نشاطاً ذات أثر وقائي ضد تدهور الحالة النفسية والقدرات الذهنية، وضد الإصابة ببعض الأمراض التي تنتج من تباطؤ النشاط العقلي والبدني.