رغم أن البابا "بنيدكت السادس عشر" دعا في كتابه الحواري الصادر هذه الأيام بعنوان "نور العالم" إلى الحوار مع الإسلام بالتركيز على المشترك الجامع بين الديانتين، إلا أنه كرر ببعض التلميح موقفه السابق المطالب بإصلاح جذري في الدين الإسلامي لخلخلة "الصلة العضوية القائمة فيه بين الحقيقة والعنف". وقد اعتبر البابا أن هذا التجديد لن يكون إلا من منظور عقلاني نقدي، مع أنه يرفض بشدة في كتابه عقلانية الأنوار المكتفية بذاتها التي اعتبر أنها تحولت إلى ديانة جديدة للغرب. وقد اتهم البابا من بعض الوجوه الفكرية المسيحية أنه يريد التشبث ببنية اللاهوت الوسيط، الذي قام على صياغة فلسفية أرسطية لعقيدة التثليث المسيحي، في حين يتعين تجاوز هذه البنية اللاهوتية، التي ليست من ثوابت الدين المسيحي ومكوناته العضوية. نلاحظ حواراً مماثلًا في السياق الإسلامي بين دعاة النزعة التنويرية العقلانية من منظور التصور الكوني الحداثي للعقل (أبرز ممثليها المرحوم محمد عابد الجابري) ودعاة نزعة الإبداع الذاتي وعقلانية الخصوصية الحضارية (أبرز ممثليها المفكر المغربي الآخر طه عبد الرحمن). بيد أن كلا النزعتين تطرحان إشكاليات نظرية معقدة ومتشعبة: فالاتجاه التنويري الكوني ظهر ونما داخل سياق ثقافي وتاريخي محدد من أبرز محدداته العلاقة بالنص واللاهوت المسيحيين في وحدة عميقة وتلازم قوي بين الفكرين الفلسفي والديني (درس أبو يعرب المرزوقي هذه العلاقة بجلاء وعمق). فمفهوم كونية العقل نفسه تولد عن هذا السياق، كما أن المثل التنويرية لا تدرك خارج ديناميكية تحولاته. أما مقاربة الخصوصية الثقافية، فإنْ كانت تصدر عن نزعة تميز عقدي، إلا إنها تستخدم النسق الدلالي لفلسفات ما بعد الحداثة في تأصيل تصوراتها للعقلانية البديلة، مع العلم أن هذه الفلسفات التي تقوم على فكرة الاختلاف والتشتت ونقد الهوية والمركز لا تنفصل في معجمها المفهومي عن السياق الذي انبثقت فيه أي سياق صراعات الحداثة الغربية وتصدعاتها. فالإشكال إذن ليس إشكال كونية أو خصوصية الخيار العقلاني التجديدي المنشود. فغني عن البيان أن لمفهوم الكونية مرجعيتين متمايزتين ومتداخلتين تاريخياً فكرياً هما :المرجعية الفلسفية (اليونانية أصلًا) والمرجعية الدينية التوحيدية (السياق الكتابي). وقد تعامل الرافدان مع مجالات ثقافية متنوعة، كما أنهما اقترنا وتصادما في لحظات متعددة. كما أن النظرة العقلانية نشأت عن التقليدين بخلفيتين ومنطقين متغايرين، وان كان التداخل بينهما بدا مبكراً في اللاهوت اليهودي– المسيحي ثم في التقليد الإسلامي منذ القرن الثاني الهجري. صحيح أن الفلسفة منذ نشأتها اليونانية تميل إلى احتكار المعقولية والبرهانية، كما أن اتجاهاً قوياً في التقليد التوحيدي يميل إلى نبذ المحددات العقلية للاعتقاد التي يرجعها للدخيل الفلسفي، بيد أن مصدر الالتباس هو عدم تبين الاختلاف بين نمطي المعقولية الفلسفية والمعقولية التوحيدية. وقد درست هذه الثنائية الباحثة اللبنانية– الفرنسية "نائلة فاروقي" في كتاب متميز بعنوان "الغربان"(جمع غرب)، مبرزة أن العقلانية اليونانية نظرت للحقيقة من حيث هي معرفة موضوعية للأشياء، في حين نظرت إليها العقلانية التوحيدية من منظور الذات والإرادة لا الطبيعة والشيء الثابت. فقيمة الخطاب في العقلانية التوحيدية ليست مرتبطة بإنتاج معرفة كونية تسمح بفهم الواقع، وإنما بتلقي ونشر رسالة كونية بأبعاد أخلاقية وتوجيهية، تحدد للإنسان منزلته في الكون، والدور الذي يتعين عليه القيام به في هذا الكون. فالخطاب الحق هنا هو الجدير بالثقة الذي يأخذ شكل نص معروض على فهم الإنسان وإرادته الحرة التي تشمل إرادة الحقيقة نفسها غير المقيدة بسقف تأويلي ثابت. الفرق الجوهري بين العقلانيتين ليس في خصائص المعقولية ذاتها (الكونية والاتساق والإقناع) وإنما في المرجعية:الموضوع بالنسبة للفلسفة والذات بالنسبة للتقليد التوحيدي. وإذا كانت العقلانية اليونانية قد تولدت عن الانتقال من الأسطورة إلى اللوغوس بصفته الخطاب الكوني البرهاني حول الطبيعة، فإن مفهوم التعالي (أي القول بالإله الواحد المطلق)، أدى الدور نفسه في التقليد التوحيدي بتحرير الإنسان من النظرة السحرية الخرافية للطبيعة ومن الانتماء القبلي الضيق، بفتح مسارات التأمل العقلاني الحر. ولقد أدرك "ابن رشد" وحده مقصد الشريعة والفلسفة، إلا أنه لم يستنتج منها توازي العقلانيتين، بل اختزل العقلانية التوحيدية في أدنى مستويات الخطاب العقلي في التصنيف الأرسطي (الجدل). أما المتكلمون القدماء والمحدثون الذين أرادوا البرهنة على الله بمقاييس العقلانية الفلسفية، فلم يدركوا أن قرار الإيمان فعل إرادي حر صادر عن الثقة في الوحي وقبول علاقة التنزيل، وبذا ليس فعلاً معرفياً (وكيف يعرف المطلق المفارق بمقولات تصنيف الوجود؟). وما لا يعرفه الكثيرون، هو أن اللاهوت التوحيدي في الديانات الثلاث، وإن تأثر بوضوح كما بينا بالموروث الفلسفي الذي أصبح جزءاً من العقيدة في المسيحية، إلا أن العقلانية الفلسفية لم تدخل منعرج الحداثة إلا بالتأثر بمقولات ومفاهيم العقلانية التوحيدية بالانتقال من اللوغوس إلى الإرادة. إلا أن الإرادة في التقليد الحداثي الأوروبي أخذت شكل وعي ذاتي متمحور حول نفسه، بما يتلاءم مع النظر للطبيعة كمجال للسيطرة والتملك وللحقيقة كفكرة من أفكار الذات تتسم بالوضوح والتميز. ولهذا التصور علاقة بلاهوت التثليث المسيحي، الذي طرح لقرون وبحدة سجالية كبيرة علاقة الذات بالجوهر كما تنجر عن عقيدة التجسد الغامضة (الإله الواحد المتجسد في بشر). وما يلاحظ هو أن الفكر الفلسفي الراهن الذي برزت فيه محاولات عديدة للخروج من سجن الوعي، لم يفتأ يتغذى من مقاييس العقلانية التوحيدية التي تظهر بقوة من الاهتمام المتزايد بالنص والكتابة والمعنى خارج ثنائية المفهوم – الوجود (أو الحقيقة –الطبيعة). قد لا يمكن تجديد العقلانية التوحيدية خارج السجل الفلسفي، باعتبار أن اعتماد الاصطلاح الفلسفي هو المسلك لإبراز هذا الضرب من العقلانية في تميزه واختلاف منبعه وقابليته للتفعيل والتطوير.