دارت عيناي في كل أنحاء المسجد الذي يقع بقرب آخر نقطة التقاء قارة إفريقيا بكل من المحيطين الأطلسي والهندي. لم أجد في جدران المسجد ولا في سقوفه ولا في أعمدته ما يبهر ويلفت الانتباه، بل كان التأثير... كل التأثير يأتي من تلك الوجوه التي انطلقت شفاهها في أول أيام عيد الأضحى بالتكبير والتهليل وحمد الله على نعمائه. كنتُ أنا الغريب القادم من بلاد تبعد عن "كيب تاون" في جنوب إفريقيا مسافة تسع ساعات من الطيران، والوحيد الغريب تقريباً من العشرات الذين راحوا يكبرون قبل وبعد صلاة عيد الأضحى، فالعادة جرت أن يغط السائح في نومه استعداداً ليوم سياحي حافل جديد، على أن يقضى صلاته بعد أن ينـزاح ثقل الكرى وتعب اليوم السابق... إن الله غفور رحيم، والحقيقة أنني كنتُ أنوي السير على هذه القاعدة لولا دافع رباني، ودافع آخر وقوده الرغبة ومعرفة كيف هو إسلام الأراضي البعيدة القصية ماذا يشغله وكيف هو موقعه داخل مجتمعاته؟ ما خرجت منه جازماً ومؤكداً لقناعاتي السابقة هو أن إسلام الـمُثل والقدوة الصالحة والقيم النبيلة التي يمتلكها الإسلام أبقى من سيف الفتوحات والغزوات. من رأيتهم يسجدون، ويركعون، ويكبِّرون في جنوب إفريقيا، وفي نيوزيلندا، وفي الأرجنتين لم تصل أراضيهم القصية رايات عقبة بن نافع، ولا موسى بن نصير، ومولاه طارق بن زياد، ولم تشهد تلك البقاع رايات محمد بن القاسم، ومحمد بن مسلمة، ولا كل من ينتمي لعائلة المجاهد ابن أبي صفرة، ولا محمد الفاتح وجيوشه العثمانية. ما جعل الإسلام يبقى في شبه جزيرة الملايو، وفي أقصى إفريقيا وبالقرب من القطب الجنوبي وعلى مشارف المحيطات هي ترجمة قول الله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). لقد ظل الإسلام حوالي 600 سنة في إسبانيا يحكم الناس هناك بالسيف ولم يخبرنا التاريخ بأن إسبانيا وأندلسها المفقود تأسلمت بعد أن تكسرت سيوف المسلمين ودموع أبي عبدالله الصغير تذرف على ملكٍ أقامه هو وآباؤه... ثم ضاع. سرعان ما تحولت تلك البلاد إلى دينها القديم ولم تعد تسمع أصوات المؤذنين فيها مرة أخرى، إلا بعد أن أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين بلاد ما بعد الحروب العالمية وانفتح العالم على العالم. أما في إندونيسيا وماليزيا التي تضم نسبة كبيرة من مسلمي اليوم، فإن الدين العظيم انتشر فيها من خلال نفر من تجار حضرموت باعوا واشتروا فيها كل شيء إلا ضمائرهم وحسن معاملاتهم، فبقي الإسلام قويّاً عزيزاً ينتشر في كل يوم وساعة، ولعل من العجيب أن البلاد التي دفع فيها المسلمون الأوائل ومن أجلها عشرات الآلاف من الأرواح لفتحها هي أكثر بلاد المسلمين حاليّاً عنفاً مقيماً ومرسلاً... ولن أذكر الأسماء فهي معروفة وليست مجهولة البتة. هذا لا يعني أن إسلام رأس الرجاء الصالح يعيش دون منغصات، ودون مشاكل، ولكنه في الواقع يعيش في ظل واقعٍ أين منه واقعه في بعض الدول الأوروبية بل حتى التي تدعي أنها إسلامية. للمسلمين هناك أن يعبدوا الله كيفما شاؤوا، وأن تلبس نساؤهم ما يعتقدون أنه لباس إسلامي، ولهم أن يذبحوا ذبائحهم على الطريقة التي يرغبون فيها، ولهم أن يكوِّنُوا أحزاباً تمثلهم في البرلمان، ولهم حقوق كما عليهم واجبات. لكن في الوقت نفسه هناك ريبة خفية من الغالبية السوداء في جنوب إفريقيا من هؤلاء الموحدين، حيث يرى البعض المسلمين تابعين للأقلية البيضاء في شأنهم المالي والاقتصادي، وأن أجدادهم القدامى قدِموا لتلك الأراضي من الهند لخدمة المستعمر كجنود مسخرين وأن هناك بواقي من ذلك الإرث القديم. والأقلية البيضاء بدورها تعتبر أن المسلمين ميالون إلى حركات التحرر السوداء ، والتحرر الاقتصادي من قيود القادمين من شمال أوروبا، وأنهم وقود الانعتاق الأسود الكلي من الهيمنة البيضاء. إن على المسلمين والحال هكذا أن يثبتوا للأقلية وللأكثرية أنهم مواطنون جنوب إفريقيون بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأن بشرتهم الملونة قادرة على لعب دور قنطرة التفاهم بين الأعراق هناك، وألا مصلحة لهم في لعب دور المرجح لهؤلاء أو غيرهم. هناك أيضاً رغبة المشرق الإسلامي البعيد في اختطاف جزء من روح وعقل الإنسان المسلم في جنوب إفريقيا، لهذا وعلى رغم حرص المسلمين العقلاء هناك على ألا تنبت بذرة العنف بينهم إلا أن صراعات العالم الإسلامي تنعكس بهذه الصورة أو تلك على تصرفات مسلمي جنوب إفريقيا وطرق تفكيرهم. ستجد ذلك في مقالات بعض أفراد الطبقة المثقفة المسلمة في صحف جنوب إفريقيا وستجدها أيضاً في محاولاتهم الكلامية كلما عرفوا أنك قادم من بلاد النفط والاعتدال. إنني لا أخشى على الأقلية المسلمة في جنوب إفريقيا من النزاع المكتوم والمؤجل بين السود والبيض، لأن فريقي النزاع المفترض وصلا إلى شبه قناعة بأن خلافاتهما لن تنفع أو تعود بالفائدة على أي طرف منهما، وأن التوزيع الحالي للثروة والنفوذ قابل للتعديل تحت مظلة عقد اجتماعي غير ثوري ولا دموي يصنعه الزمن ومقتضيات الواقع واستعداد كل طرف لإبراز مواهبه وجهده من أجل الرفاه والتقدم في تلك البلاد التي انعتقت من شراك التخلف الإفريقي (الاختياري) وأصبحت بلادها جنة أرضية قياساً ببلدان الجوار وما بعد ذلك. إنني أخاف أكثر على الأقلية المسلمة من صراعات العالم الإسلامي شرقه وغربه وشماله وجنوبه. إن عدوَى الاختلاف الإسلامي مذهبيّاً وعرقيّاً وتخندق البعض في مواجهة خندق البعض الآخر هو أكبر خلل وخطر يهدد تماسك الأقلية المسلمة في جنوب إفريقيا وسيؤدي إلى وقوف البيض والسود على حد سواء تجاه خطر التطرف المحتمل المتمثل في هؤلاء الذين أسمع الآن بهدوء أصوات تكبيرهم وتهليلهم. سيتفشى إن حدث هذا الأمر -لا سمح الله- الخوف من الإسلام والمسلمين، مثلما هو حادث في بلدان عديدة إلى حد أن الخوف من الإسلام "الإسلاموفوبيا" أصبحت خبز الحديث اليومي للمذعورين صدقاً وتوهماً، وكذلك من يأتي منهم شرر الذعر. الفقر وصراع الطبقات وجدت وستوجد في جنوب إفريقيا كما في الأمم الأخرى، لكن ما رأيته من حيوية الأقلية المسلمة وتكاتفها يجعلان خوفي في أقل درجاته من هذه الناحية على الأقل. ... هواء منعش يدخل الآن إلى المسجد في اللحظة التي أفكر فيها في معاني ما حولي، وتعطيني الآمال الكبيرة والكثيرة تلك الكلمات العذاب من إمام أحد مساجد "كيب تاون" قاصداً بلده الذي يعيش فيه: "ربِ اجعَل هَذا البلدَ آمناً... وسَائرَ بلادِ المسلمين"، وأردِّد مع الجميع الذي يعرف أن نصف الدعاء على الأقل قد استجِيبَ له ... آمـين.