تسع عشرة خلية تابعة لـ"القاعدة"، هي الحصيلة النهائية لما أعلنت عنه وزارة الداخلية السعودية قبل أيامٍ، وهي مؤشر على استمرار تهديد "القاعدة" للدولة والمجتمع، مع فارقٍ مهم هو أن النشاط الأمني أصبح أسرع وأشمل وأكثر تركيزاً وإحكاماً في مواجهة نشاط التنظيم، الذي لم يزل له تحت الرماد جمر. في السعودية سببت هذه النجاحات الأمنية حالةً من الارتخاء الشعبي والمجتمعي ثقةً بقوة الدولة في مواجهة هذا التنظيم، الذي كان شرساً فقلمت أظفاره، وبقيت له فلول هي دائماً تحت الضغط والحصار، وأصبحت عملياته مجرد فقراتٍ في بياناتٍ أمنيةٍ لا أحداثاً تؤثر في الواقع وتدمّر الممتلكات وتقتل البشر، ما دعا لهذا الارتخاء الشعبي، هو أن الأجهزة الأمنية لم تعرف هذا الارتخاء، بل أداؤها في مواجهة التنظيم في تصاعدٍ وتزايد. مشهد "القاعدة" في السعودية واحد من صورةٍ كبرى تشمل العالم أجمع ومنطقة الشرق الأوسط بشكلٍ أخصّ، من الهند وباكستان وإندونيسيا شرقاً إلى الجزائر وموريتانيا ومالي والمغرب غرباً، حيث توزعت أنشطة هذا التنظيم من تفجير وتخريب ونشر للدمار حيثما نشطت خلاياه وانتعش أفراده. هذا الحديث عن تنظيم "القاعدة" وعملياته وانتشاره، يمثل نموذجاً لما أنا بصدد الحديث عنه هنا، والمتمثل في أن ما هو أخطر من التنظيم التخريبي، هو الأيديولوجيا التي توجّهه، والأفظع من عملياته على المدى الطويل هو الخطاب الذي ينطلق منه، وهي أيديولوجيا حديّة متطرفة وخطاب دموي يلعب بالعقول قبل أن يحرك الأجساد. يحكي واقع اليوم ارتفاعاً في الحساسية الأيديولوجية على مستوى العالم، وفي منطقتنا بشكل خاصٍ، بالأمس تطالب الهندُ باكستانَ بالاعتراف بمسؤوليتها كدولة وحكومة عن تفجيرات مومباي، والمظاهرات والتصريحات تتفشى في باكستان احتجاجاً على نية الحكومة العفو عن مسيحية حكمت سابقاً بالإعدام، وفي العراق تفجّر الكنائس ويستهدف المسيحيون، و"القاعدة" تهددهم في مصر وفي كل بلدٍ عربيٍ وتصرّح بمشروعية استهدافهم. الطبيعي في حراك البشر أن يكون العامل السياسي هو الأكثر تأثيراً وهو العامل الأوّل في التأثير، بما يشمله مجاله من اقتصاد ومجتمع وثقافة ونحوها مما هي أشياء يتخذ القرار فيها السياسي، خاصة في منطقتنا، وما يجري اليوم هو أنّ هذا العامل تأخر عن مكانته الطبيعية وأخذ العامل الأيديولوجي يتقدّم عليه، وبدلاً من أن تستخدم السياسة الأيديولوجيا لخدمة أهدافها، أخذت الأيديولوجيا تقود السياسة، أو على الأقل أجبر الأيديولوجي السياسي أن يتحوّل إلى ما يشبه رجل المطافئ، الذي يلاحق حرائق الأيديولوجيا هنا وهناك، محلياً وإقليمياً وعالمياً. بناء على هذا التصوّر فإن المسؤولية التاريخية على الجميع اليوم هي مواجهة الأيديولوجيا، الساندة للإرهاب الأصولي، وتفكيك بناها وتقليم أظافرها، وترويض جموحها، وإضعاف تأثيرها، وذلك شأن ضخم ومشروع كبير لا يمكن أن تفعله دولة لوحدها ولا شخص بمفرده، بل هو مشروع ينبغي أن يتحوّل إلى مشروع أمة بأكملها، يتعاضد فيه الجميع كل بما يستطيع، حسب طاقته وجهده. إنه مشروع يحتاج لرؤية استراتيجية لتحطيم الأيديولوجيا، التي تحوّلت لآلة قتل ضخمة عبر سنوات طويلة وتراكمات سلبية، تمّ التغافل عنها طويلاً، كما يحتاج أكثر لبرامج عمليةٍ سياسية وأمنية وثقافية واقتصادية، وأن يأخذ هذا المشروع وقته الكافي للنضج والتأثير، فلا يمكن في سنوات نزع أشواك الأيديولوجيا التي زرعتها عبر عقود. ملاحقة أضرار الأيديولوجيا لا يمكن أن تكون عملاً أمنياً فحسب، بل هي عمل ثقافي سياسي اجتماعي اقتصادي قبل العمل الأمني ومعه وبعده، فالأخطر من عناصر "القاعدة" المنخرطين في التنظيم، هو حجم الأعداد البشرية المشحونة أيديولوجياً والتي هي عبارة عن عناصر مهيئة للانخراط في التنظيم، وأخطر من هذين منصّات البث والشحن والتجنيد، تلك التي تتمثل في تنظيمات أيديولوجية واسعة الانتشار، ويمكن رصد نتاج هذه المنصات عبر قنوات فضائية وبرامج دينية، ومواقع إلكترونية، وفتاوى وخطب ومناهج تعليمٍ ودروسٍ ومحاضراتٍ وغيرها من وسائل التعبير وآليات التأثير، تلك التي تضمن مجتمعةً إبقاء الحساسية الأيديولوجية في أعلى مستويات التوتّر والسخونة. قد يتمّ القضاء على "القاعدة" كتنظيم، ولكنّ بقاء الأيديولوجيا على حالها يمثل أكبر ضمانةٍ لخروج تنظيمات أخرى تحت مسميات جديدة تحمل الراية السوداء وتواصل المسيرة الدامية، ومن هنا فإنه إن لم يتمّ نقض الأيديولوجيا عبر نقض خطابها من جذوره وضخّ خطابٍ آخر ليحلّ محلّه عبر عمل دؤوبٍ وطويل النفس، فإننا سنستمر في الدوران داخل هذه الجرائم، نتجرع حنظلها في كل حين، ونكتوي بنارها في كل مكان. ثمة بيئة تصنع العنف وتولّده بشكلٍ تلقائي، وثمة محفزات لتمدّده وتعزيز مكانته وتأثيره، وهي بيئة أيديولوجية مهيمنة ومسيطرة وواسعة الانتشار، والتعامل مع التنظيمات العنفية كخلايا أو كأفراد هو مجرد تسكين للألم وليس قضاء على المرض ولا قطعاً لدابر الداء، ذلك أنّ الإرهاب والعنف أشبه بالفيروس في لغة الطب، وحين لا يجد الفيروس بئيةً مناسبةً له يموت من تلقاء نفسه، وينتهي شرّه وينقضي ضرره. مرّ العالم الإسلامي والعربي الحديث بمراحل جديرة بالملاحظة في هذا السياق، فقد كانت تقود نخبه وجماهيره مشاريع كبرى وأفكار مهمة منها محاربة الاستعمار والسعي للاستقلال الذي استنزف جهوداً ضخمةً وعضدته طاقات هائلة من شتى الشرائح وكافة الطبقات، ومن جهة أخرى خاضت الشعوب والنخب والقيادات معركةً أخرى مع التخلّف وبذلت ما استطاعت في خلق بيئة تدفع باتجاه التقدّم والرقي، إنْ افترقت السبل والمناهج المطروحة لذلك، فقد كان الهدف واضحاً والغاية جليةً. اليوم صارت الأيديولوجيا هي الوسيلة والغاية، هي الطريق والهدف، هي الواقع والطموح، صارت الخرافة أقوى من الحقيقة، والخطابة أهم من العقل، والموت خير من الحياة، وبعد المشاريع الكبرى السابقة انحدرنا إلى هذا المستوى الرديء، ما لم نستطع إعادة ترتيب المشهد بشكل عامٍ وخلق مشاريع جديرة بنيل اهتمام الجميع فلن ننجح في مواجهة الأيديولوجيا. ثمة أفكار كبرى يمكن طرحها والسعي لنشرها بين الكافة، مثل التنمية والحرية وثقافة القانون ونحوها مما يمكن لو تمّ شرحها للمتلقين وتوظيفها ونشرها عبر مشاريع متفرقة وآليات مختلفة لربما استطاعت سحب البساط من هذه الخطابات وتوجيه الدفة من جديد نحو جديد مثمرٍ يدفعنا للمستقبل ويحشد الجهود لغد أفضل وأهدافٍ أرقى. ربما كانت الفكرة صعبة ولكنّها ليست مستحيلةً، ولئن صدق بعض الفلاسفة بأن التاريخ يمرّ بدورات، فإن الأيديولوجيا وسيطرتها اليوم هي دورة من دورات، وبيد الناس والنخب التأثير في توجيه الانتقال من دورة مؤذية لدورة نافعة، من دورة دموية لدورة تنموية.