يبدو أن الوضع في شبه الجزيرة الكورية بات موضع انشغال لدوائر القرار الاستراتيجي في العواصم العالمية الكبرى ذات الصلة بلعبة المصالح والصراعات هناك. فعقب القصف المدفعي من جانب قوات كوريا الشمالية ضد جزيرة تابعة لكوريا الجنوبية، والذي أسفر عن سقوط أربعة قتلى وفرار مئات السكان، ردت سيؤول ملوحة بنية الثأر واللجوء إلى خيار الحرب. وإن تراجع هذا الخيار في منطوق الخطاب الدبلوماسي، خاصة بعد أن استبعدته واشنطن وبكين، فقد تسارعت تطورات الأيام الأخيرة لتعيد الخيار العسكري إلى صدارة التحليلات السياسية حول الأزمة الكورية ومآلاتها المحتملة. ومن مستجدات التصعيد أن كلاً من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة أطلقتا أمس الأحد مناورات عسكرية مشتركة ضخمة، وهو تطور اعتبرته بيونج يانج قريباً من إعلان الحرب، كما أثار انتقاداً من بكين لتؤجل زيارة كانت مقررة لوزير خارجيتها إلى سيؤول. لكن الأهم من ذلك في نظر المراقبين، وهم يرصدون علامات التأزيم المتقاطرة في الموقف، كان تعيين وزير جديد للدفاع في كوريا الجنوبية، خلفاً لوزير الدفاع السابق كيم تاو تاو وينج الذي استقال من منصبه متحملاً مسؤولية الثغرات التي كشفها الهجوم. وزير الدفاع الجديد هو كيم كوان جين الذي أعلنت الرئاسة الكورية الجنوبية، يوم الجمعة الماضي، تعيينه في حقيبة الحربية. ووفقاً للإعلان فإن الوزير الجديد ذو قدرات قيادية وخبرة استراتيجية عسكرية كبيرتين، في إشارة إلى تجربته 40 عاماً في الجيش، حيث عدة مواقع ضمنها قيادة هيئة الأركان المشتركة قبل عامين على تقاعده. في عام 1949، ولد كيم كوان جين في كوريا الجنوبية، وهي شبه جزيرة تقع بشرق آسيا، ويحيطها كل من بحر اليابان شرقاً، والبحر الأصفر غرباً، ومضيق كوريا جنوباً، إضافة إلى أرخبيل يتبعها ويضم مئات الجزر الصغيرة. تخرج كيم من الأكاديمية العسكرية الكورية عام 1971، وخدم في عدة مواقع، وتدرج في سلم الرتب العسكرية إلى أن أصبح جنرالاً في عام 1996، كما تقلد مهام ومناصب قيادية في القوات البرية، وأصبح قائد الفرقة 35 من قوات المشاة بين عامي 1999 و2000، ثم قائد الفيلق الثاني في الفترة من 2002 إلى 2004، بعد ذلك أصبح القائد العام لمديرية العمليات المشتركة التابعة لهيئة الأركان العليا خلال الفترة من 2004 إلى 2005، ثم عين قائداً عاماً للجيش الكوري الثالث في عام 2005، قبل تعيينه في العام التالي رئيساً لهيئة الأركان المشتركة، وبقي في ذلك المنصب حتى مارس 2008 عندما تم استبداله بالجنرال "كيم هاي يونج"، حيث لم يلبث أن أحيل للمعاش. والسؤال الآن: كيف سيؤثر تعيين كيم، بخبرته وسنوات تجربته، على اتجاه الموقف بين الكوريتين في قابل الأيام؟ تكاد كل المصادر والتعليقات ذات الصلة، تجمع على أن كيم يمثل الجناح المتشدد داخل نخبة الضباط العسكريين في كوريا الجنوبية، وعلى أنه لن يتهاون مستقبلاً في الرد على أي "استفزاز" عسكري من جانب كوريا الشمالية، خاصة أن تعيينه جاء عقب اللوم الموجه إلى ما قيل إنه تهاون من جانب سلفه في التصدي لجيش كوريا الشمالية يوم الثلاثاء الماضي. وفي أول تصريح صحفي له، وعد وزير الدفاع الجديد بـ"التعامل السريع والحازم مع الأزمة"، متوعداً كوريا الشمالية برد "أقوى بمئة مرة" إذا ما شن جيشها هجوماً على كوريا الجنوبية، وفقاً لما نقلته صحيفة "شوسون أيلبو" الكورية الجنوبية. ومن لمؤكد أن جدول أعمال وزير الدفاع الجديد سيكون حافلاً خلال الأسابيع القليلة القادمة؛ فهجوم الثلاثاء الماضي كشف أن قدرات جيش كوريا الجنوبية تعاني ضعفاً شديداً، وأن مصداقيته أصبحت على المحك. بيد أن قرار السلم والحرب في شبه الجزيرة الكورية تتحكم به اعتبارات تتجاوز وزير الدفاع، وهو قرار خاضع للتسوية الضمنية القائمة حول التنافس الصيني الأميركي في شبه الجزيرة، ذلك التنافس الذي يجد خلفياته القريبة نسبياً في التاريخ، والمرتبطة بانقسام كوريا إلى شطرين. فقد قامت اليابان باحتلال شبه الجزيرة الكورية بين عامي 1910 و1945، لكن الأميركيين سيطروا عليها عقب استسلام اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية. وبعد ثلاث سنوات جرى تقسيمها شطرين؛ شمالي تحكمه سلطة شيوعية وجنوبي خاضع لحكومة موالية للولايات المتحدة. وفي عام 1950 اندلعت الحرب الكورية، فدعمت بكين حلفاءها في الشمال، بينما ساندت واشنطن كوريا الجنوبية، ولم تتوقف الحرب إلا باتفاقية الهدنة في عام 1953 والتي أقرت منطقة فاصلة منزوعة السلاح. وبينما تمسكت كوريا الشمالية بنسختها من الستار الحديدي، ثم دخلت حلبة الطامحين لامتلاك السلاح النووي، شهدت كوريا الجنوبية انطلاقة اقتصادية كبيرة رغم الاضطرابات السياسية التي عانت منها. فبالإضافة إلى النمو المتسارع، شهد قطاع الاتصالات والخدمات الحكومية والتجارة ووسائل النقل... تطوراً هائلاً. وتجاوز إجمالي البضائع والخدمات المنتجة سنوياً في كوريا الجنوبية 210 مليارات دولار أميركي، ومثّل الإنتاج الصناعي 32 في المئة من الناتج الوطني الإجمالي. لكن بعض المحللين الاستراتيجيين يأخذون على تجربة كوريا الجنوبية كونها أهملت البعد العسكري في نهضتها الصناعية، ولم تأخذ بالأسباب الكافية لبناء قوة دفاعية قادرة على حماية منجزاتها التنموية الباهرة. وكما يقول الخبراء فإن مدفعية كوريا الشمالية المصوبة نحو سيؤول بإمكانها دك الأبراج الزجاجية لعاصمة الجنوب، قبل أن تتمكن القوات الكورية الجنوبية من استجماع قوتها والرد على الهجوم. وأمام العسكرة المتنامية في الشمال، اكتفت سيؤول بالاعتماد، باتفاقياتها الدفاعية والأمنية، على واشنطن، ما جعل الولايات المتحدة طرفاً متحكماً بإدارة قيادة العمليات في الجيش الكوري الجنوبي، وذلك ما يعلمه تماماً وزير الدفاع الجديد "كيم". ورغم أجواء التوتر الحالية، وأحد مظاهرها تعيين "كيم"، فإن أياً من الكوريتين لن تقدم على حرب لا مصلحة لها فيها، وحتى لا تملك القدرة على خوضها لوقت طويل، خاصة أن بكين وواشنطن تستبعدان كلياً خيار الحرب إلى الآن. أما مجرد تعيين وزير فلا يصح أن يكون سبباً لأخذ شبه الجزيرة الكورية نحو جحيم الحرب، وفيها أمة تقاسمتها عقود من الخلافات الداخلية والتحالفات الخارجية، تبادلت خلالها فوهات المدافع بين حين وآخر! محمد ولد المنى