وأنا أقرأ التقارير الإعلامية الكثيرة حول الحوافز المغرية جدّاً التي تردد أن الولايات المتحدة عرضتها على إسرائيل نظير موافقتها على تجميد النشاط الاستيطاني لثلاثة أشهر أردت في البداية افتراض حسن النية لدى الأميركيين المنخرطين في الوساطة من أجل السلام، ولكن على أكثر من صعيد لم أتمكن من فهم المنطق الذي يحكم السياسة الأميركية والحوافز المطروحة! أولا لم أفهم الغاية أو المنطق من التفاوض مع الإسرائيليين حول الاستيطان، فإذا كان الاستيطان غير شرعي حسب القانون الدولي فلمَ التحدث عنه أصلاً؟ وما الذي نتفاوض حوله؟ لقد تفاءلنا جميعاً في البداية بالمواقف التي اتخذتها إدارة أوباما تجاه الاستيطان ومطالبتها الحازمة بتجميده وطي صفحته، وهو الموقف الذي شددت عليه هيلاري كلينتون، موضحة أن الرئيس يعني وقف جميع أعمال البناء، ولكن عندما أرسلت إسرائيل وزير دفاعها، إيهود باراك، إلى واشنطن للتباحث مع المسؤولين الأميركيين، وعندما أبدت الولايات المتحدة استعدادها للأخذ والرد مع الوزير الإسرائيلي، بدل إرساله إلى بلاده، بدأ التفاؤل في الانحسار والأمل في التراجع، لتتلو ذلك سنة ونصف سنة من الإشارات المتباينة وغير الواضحة ومن التيه وعدم الحسم في الموقف الأميركي الذي ما زال مستمراً حتى اليوم. فمن ناحية تصر الولايات المتحدة على أن البناء الاستيطاني خطأ ولذلك يجب وقفه، ومن ناحية أخرى تعتبر واشنطن المستوطنات الحالية وكأنها "حقائق مقبولة"! وبالطبع يدرك الإسرائيليون أنه على رغم الشكاوى التي قد تصدر عن المجتمع الدولي بعد مواصلتهم النشاط الاستيطاني سيتمكنون من اجتياز العاصفة وتخطي الانتقادات كما فعلوا دائماً في الماضي، وعندها يستطيعون الاحتفاظ بما بنوه من مستوطنات، وهي لعبة انخرط فيها الإسرائيليون منذ أربعين عاماً أو أكثر، ويعلمون أنهم عندما يراوغون ويربحون الوقت يكسبون الجولة في النهاية. ولكنني لا أفهم أيضاً المنطق وراء التجميد المؤقت للاستيطان لفترة لا تتعدى ثلاثة أشهر ليُستأنف بعد ذلك بحرية، فما لم تكن الإدارة الأميركية تهيئ لأمر ما لا نعرفه، وأنها على ثقة تامة بقدرتها على اجتراح الحلول السحرية خلال تسعين يوماً للتوصل إلى تسوية، فإن مهلة الثلاثة أشهر ستنقضي وسيتبعها استئناف الاستيطان وكأن شيئاً لم يكن. وأتصور هنا أن الاعتقاد السائد لدى واشنطن هو القدرة على التوصل إلى اتفاق حول الحدود خلال المدة التي يكون فيها الاستيطان متوقفاً، بما في ذلك القدس حسب المفهوم الإسرائيلي الذي يشمل ليس فقط المدينة نفسها بل أيضاً أراضي تغوص عميقاً في الضفة الغربية شمال وشرق وجنوب المدينة. والفكرة الأساسية هي أن الإسرائيليين سيقبلون الحدود التي تضم المستوطنات الرئيسية المبنية في السابق بالإضافة إلى الأراضي المحيطة بها التي تتيح ما يسمونه "النمو الطبيعي" فيما سيوافق الفلسطينيون على ذلك باعتباره أمراً واقعاً. وضمن هذه "الحدود المقبولة" سيسمح بالبناء بالتزامن مع استمرار المفاوضات حول القضايا الأخرى! ولكن بما أن المتشددين في حكومة نتنياهو الذين لا يقبلون بالتجميد المؤقت للاستيطان لن يسمحوا بإعادة ما تبقى من أراضٍ في الضفة الغربية إلى الفلسطينيين، وبما أن الجانب الفلسطيني لن يقبل على الأرجح الحدود التي سترسمها إسرائيل، لذا أخشى أن مجمل المقاربة الأميركية القائمة على افتراض التوصل إلى شيء ما خلال الثلاثة أشهر ستنتهي إلى الفشل. وليس من المنطقي أيضاً كل هذه الحوافز الكبيرة التي تمنحها أميركا لإسرائيل مقابل تجميد متواضع للاستيطان لمدة تسعين يوماً، فالمنطق هنا حسب الأميركيين هو حاجة نتنياهو للحوافز كي يقنع حكومته بوقف الاستيطان، والحال أن تلك الحكومة في حد ذاتها هي المشكلة منذ البداية، فلو أن نتنياهو جاد فعلًا في التوصل إلى السلام لكان شكل حكومة ائتلافية واسعة تضم باقي الأحزاب، ولكن إصراره الشخصي على مواقفه المتعنتة الرافضة للسلام هو ما أفضى إلى الورطة الحالية. ولا حاجة للتذكير طبعاً بأن هذه ليست هي الطريقة التي تعامل بها بوش الأب ووزير خارجيته، جيمس بيكر، مع إسحاق شامير في عام 1991، أو الطريقة التي تعاطى بها بيل كلينتون مع نتنياهو في عام 1998، ففي كلتا الحالتين أدى الضغط الأميركي إلى تغيير إسرائيل لمواقفها، أما في حالتنا هذه حين تكافئ أميركا نتنياهو على تعنته ووقوفه إلى جانب ائتلافه المتشدد، فهذا ما يمثل بجميع المقاييس سابقة خطيرة لن تمر دون نتائج وخيمة في المستقبل. فإذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي غير قادر على إرغام حكومته على وقف بناء المستوطنات غير الشرعية إلا بحوافز أميركية سخية فكيف يمكن إقناع أعضاء تلك الحكومة بالانسحاب من الأراضي المحتلة؟ وما هو الثمن الذي يتعين على الولايات المتحدة دفعه مقابل ذلك؟ وهل المنطق هنا هو السماح للإسرائيليين بالدخول في مناقشات داخلية لوقف ما كان يفترض ألا يقوموا به أصلاً ثم رمي الكرة في مرمى الفلسطينيين وإرغامهم على قبول ما لا علاقة لهم به، أو أن يصوروا على أنهم هم المعطلون لعملية السلام؟ والأكثر سوءاً من ذلك هذا التدخل الأميركي السافر في المفاوضات ليس بالنيابة عن الفلسطينيين، بل بدلاً منهم، إذ ماذا سيتبقى للفلسطينيين من قضايا الحل النهائي للتفاوض حوله عندما توافق أميركا على مطالب إسرائيل المتمثلة في الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية وبقاء تواجدها الأمني في غور الأردن. وبطرح أميركا مسألة تعطيل أي مسعى فلسطيني للجوء إلى الأمم المتحدة كحل أخير تكون قد فرضت المزيد من القيود على الخيارات الفلسطينية، وبما أن هذه القضايا لم تناقش مع الفلسطينيين، ولا مع القادة العرب، فإنني أتصور أنها ستفاقم الخيبة وفقدان الثقة فيما يجري من أمور، فهل من منطق في كل ذلك؟