على حين ظل الفساد ينخر معظم المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية والقضائية في العالم النامي، فإن المؤسسات الدستورية الهندية - خصوصا مؤسسة الجيش ذات الاحترام الكبير، والتاريخ النظيف المشهود له بالخضوع للمؤسسات الديمقراطية المدنية - ظلت بعيدة عن مثل هذه الحالات، مع استثناءات قليلة تمثلت في فساد عدد قليل من ساستها- ولا سيما المحليون منهم- واكتشاف بضع حالات فساد في صفوف ضباط الجيش ممن حاولوا قبض العمولات أثناء عقد صفقات تحديث معدات الجيش أوأثناء توقيع اتفاقيات بناء المنشآت العسكرية، أو ممن حاولوا تحويل وجهات المعونات الخارجية أو تهريب سلع تافهة مخصصة لمنسوبي الجيش لصالحهم كالسجائر والمشروبات الكحولية والوقود والأغطية والملابس والخيام. غير أن الأمور تغيرت بشكل دراماتيكي وسريع خلال السنوات العشر الماضية، وبالتزامن مع ما شهدته وتشهده الهند، المترامية الأطراف، والمثقلة بعدد ضخم من السكان والأجهزة البيروقراطية المركزية والمحلية، من عمليات تجديد للبنية التحتية، وتدشين للمشاريع الإنمائية والصناعية والعسكرية الكبرى، من تلك التي تستهدف اللحاق بركب العصر ومواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. فإذا استثنينا ما حدث في العام الماضي حينما تمت عملية بيع مشبوهة لأراض تتبع ملكيتها لوزارة الدفاع في منطقة "سوخنا" بولاية "البنغال الغربية" بمساحة تقترب من الثلاثين هكتارا إلى مجموعة من المستثمرين المحليين في القطاع الخاص، وهي العملية التي أكتشفت سريعا ونال المتورطون فيها عقوبات مختلفة في صورة مصادرة أموالهم، وتخفيض رتبهم العسكرية أو نقلهم نقلا تأديبيا إلى وظائف دنيا، فإن ما وقع مؤخرا أثار الدهشة، وأدى إلى فتح كل الملفات على مصراعيها، خصوصا وأن قضية الفساد الجديدة مست حقوق أرامل شهداء الجيش ممن قضوا أثناء الحرب الجبلية القصيرة مع باكستان عام 1999 ، والمعروفة بحرب أو أزمة "كارجيل". وتتخلص حكاية الفساد الطازجة في أن التحقيقات الرسمية أدت إلى ثبوت تورط عدد من الساسة والبيروقراطيين المتنفذين، بالاشتراك مع مجموعة من كبار ضباط المؤسسة العسكرية، في الاستيلاء، دون وجه حق على عقارات فارهة لأنفسهم في مشروع سكني في منطقة "كولابا" التجارية الواقعة في الجزء الجنوبي من مدينة "مومباي" عاصمة ولاية "مهاراشترا"، علما بأن المشروع المذكور تم الانتهاء منه عام 2008. وفي سياق الكشف عن فضيحة الفساد هذه، تمت الإشارة تحديداً إلى الجنرالين "ديباك كابور" و "نيرمان تشاندر فيج"، إضافة إلى قائد القوات البحرية السابق الأدميرال "مانيندرا سينج" والنائب السابق لقائد القوات المسلحة "شانتانو تشودري"، كأشخاص ضالعين في تملك ما لا حق لهم فيه من خلال ترهيب مسؤولي " الجمعية التعاونية العسكرية للإسكان". بل تمت الإشارة أيضاً إلى أن الجنرالين "كابور" و "فيج" قد سنا بنفسيهما اشتراطات تتيح لهما تملك عدد من الشقق السكنية التي يتجاوز سعر الواحدة منها اليوم 80 مليون روبية، أو ما يعادل 1.8 مليون دولار أميركي. من تلك الاشتراطات، أن من يريد الانتفاع بالسكن يجب عليه تقديم أوراق وشهادات تثبت إقامته في "مومباي" (المدينة التي تشهد طفرة عقارية غير مسبوقة وغلاء فاحشاً في أسعار الأراضي) لمدة لا تقل عن 15 عاماً. وكي ينطبق على الجنرالين مثل هذا الشرط، قاما باستصدار شهادات مزورة بهذا الخصوص، وقدما أوراقا مفبركة. والجدير بالذكر في هذا المقام أن عملية الفساد هذه لم تكتشف إلا حينما بادر الأدميرال "سانجيف باسين" من قيادة القوات البحرية المرابطة في "مومباي" بالكتابة إلى كبار رؤسائه في وزارة الدفاع في "نيودلهي"، شاكيا من وجود مخالفات جسيمة في إتمام المشروع السكني المذكور، ومشيراً في الوقت نفسه إلى وجود مخاطر أمنية للمشروع كونه يطل على منشآت عسكرية حساسة في المنطقة، علاوة على أضراره البيئية التي كانت الصحافة المحلية قد أشارت إليها في سنوات سابقة، لكن المؤسسة العسكرية تصدت لها بالقول "إن الأراضي والمناطق التي تتبعها لا تنطبق عليها القوانين المدنية". وهكذا كانت رسالة "باسين" هي التي قرعت أجراس الإنذار، ودفعت السلطات إلى فتح تحقيق واسع حول المشروع السكني في "كولابا". حيث تبين بعد الفحص والتدقيق الميدانيين، أن المشروع الذي كان مقررا له ألا يتجاوز الأدوار الستة، ارتفع إلى 31 دوراً بارتفاع 100 متر، الأمر الذي جعله يكشف كل ما يدور داخل المنشآت العسكرية الحساسة القائمة على شواطئ "بومباي"، وبالتالي ففي استطاعة أعداء الهند (من انفصاليين كشميريين وماويين وجماعات إرهابية متشددة) استخدامه في القيام بعمليات هجومية ناجحة. وتعليقا على هذه الحالة غير المسبوقة طالبت الصحافة الهندية الحرة في افتتاحيتها بضرورة تدخل الدولة بقوة قبل أن تستفحل الظاهرة، وتتحول الهند إلى صنو لبعض البلدان النامية لجهة تفشي الفساد في أوصالها، وعجز المؤسسات المدنية عن كبح جماح طموحات جنرالات المؤسسة العسكرية، فيما كتب بعض نشطاء المجتمع المدني مقالات يحثون فيها حزب "المؤتمر الحاكم" وحزب "بهاراتيا جاناتا" المعارض إلى رص الصفوف وتكثيف الجهود لمكافحة مختلف ظواهر الفساد والإفساد، بدلا من توجيه الاتهامات لبعضهما البعض حول من زرع بذور الفساد في المجتمع أولاً، أو الدخول في سجال عقيم حول أيهما يملك تاريخاً أكثر نصاعة، ورموزا أكثر نزاهة. هذا علما بأن الحزب الحاكم بقيادة "سونيا غاندي" وجد نفسه في موقف دفاعي مؤخراً أمام حزب المعارضة، على خلفية طرد الأول لرمزين من رموزه الكبار، وهما وزير الاتصالات "أنديموتو راجا"، ورئيس حكومة ولاية مهاراشترا "أشوك تشافان"، بسبب الغش والإخلال بالأمانة، وهو ما نجم عنه خسائر فاقت الأربعين بليون دولار في سوق المبادلات المالية. من المهم التذكير بأنه طالما وجدت في الهند مؤسسات ديمقراطية شفافة، وصحافة حرة، وقضاء نزيه، فإن جرثومة الفساد لن تنجح في التكاثر، ومن يقتاتون عليها لن يستطيعون الإفلات من العقاب، أي على العكس من الأمم ذات الأنظمة الشمولية، والإعلام المقموع.