في الوقت الذي تستعد فيه الولايات المتحدة للاحتفال بأعياد الميلاد من خلال طهي الديك الرومي الشهير، تدخل ألمانيا موسم طهي الإوز المنتشر على نطاق واسع، فأينما اتجهت تجد من يقدم لك طبق الإوز سواء في الوجبات الرئيسية أو في الشربة، أو حتى في السلطة. لكن في ألمانيا على الأقل يحق للناس الاحتفال والاستمتاع بأوقاتهم وتذوق لحم الإوز الشهي، لمَ لا والاقتصاد الألماني يعيش فترة من الازدهار جعلته الأقوى في العالم، بحيث استطاعت ألمانيا الحفاظ على توازن صعب في ميزانها التجاري بالنظر إلى العلاقة المتوازنة بين الصادرات من جهة والواردات من جهة أخرى، وهو ما جعلها تحتل المركز الثاني بعد الصين في هذا المجال، دون أن ننسى المعدل المتدني نسبياً للبطالة مقارنة مع الولايات المتحدة، إذ لا تتعدى 5.7 في المئة، وهي أقل معدل بطالة حققته ألمانيا منذ توحيد الألمانيتين، هذا بالإضافة إلى النمو القومي للاقتصاد الألماني واستمرار الأجور في الارتفاع. والحقيقة أن ما يشهده الاقتصاد الألماني من ازدهار هو انقلاب لافت بعدما دأب المصرفيون البريطانيون والأميركيون على التندر عليه لسنوات طويلة معتبرين ألمانيا رجل أوروبا المريض. فالبنوك الألمانية، حسب الانتقادات الأميركية، مفرطة في تحوطها، كما أنها نادراً ما تمتد في تعاملاتها خارج الحدود، حاصرة نشاطاتها وخدامتها داخل التراب الألماني... بل إن الخبراء الأميركيين كثيراً ما نصحوا الألمان بتقليص قطاعهم الصناعي وتعزيز القطاع المالي المدر للأرباح! لكن، ولحسن الحظ، رفض الألمان اتباع النصائح الأميركية والبريطانية، بحيث حافظ القطاع الصناعي على حصة مهمة في الناتج الإجمالي المحلي تصل إلى ربع الاقتصاد، فيما لا تحتل الصناعة ضمن الاقتصادين البريطاني والأميركي سوى 11 في المئة، وهو ما يفسر إلى حد كبير الصعوبات التي يواجهها البلدان في تعزيز صادراتهما. وبينما انخرطت الشركات الأميركية والبريطانية في عمليات تقليص قاسية للعمال وخفض الأجور، حافظت الشركات الألمانية على مستويات الأجور المرتفعة، كما لم تلجأ إلى عمليات التعهيد التي اعتمدت عليها الشركات الأميركية لتعظيم أرباحها على حساب العمال المحليين. ولفهم المعجزة الألمانية لابد من التركيز على الشركات المتوسطة والصغيرة التي تمثل جزءاً أساسياً من النسيج الاقتصادي الألماني، ففي الأسبوع الماضي زُرتُ إحدى تلك الشركات التي تبعد عن برلين بساعتين فقط وتتخصص في إنتاج آلات صناعية تستخدم في القطارات الصينية والألمانية، بالإضافة إلى آلات دقيقة صديقة للبيئة. وقد حقق المعمل الصغير حجم معاملات بلغ 24 مليون يورو سنوياً، لذا تمكنت الشركة من الفوز بحصة مهمة في السوق العالمية حتى وإن كان عدد موظفيها لا يتجاوز 175 عاملا، لكنهم على درجة كبيرة من المهارة وأغلبهم يظلون في الشركة لعقود طويلة. ورغم الركود الذي ضرب الاقتصاد الألماني في عام 2008، وتضرر الشركات الصغيرة والمتوسطة جراء ذلك، فإنها استفادت من برنامج حكومي للدعم المالي واستطاعات الحفاظ على عمالها بدوام جزئي بدل تسريحهم، وهو ما يؤكده "كلاس هوبنر"، عضو البرلمان الألماني وأحد أصحاب تلك الشركات الصغرى قائلا: "استفاد ما بين 15 و20 في المئة من عمالنا من المساعدات الحكومية وظلوا معنا دون الحاجة إلى تسريحهم". وباحتفاظها بعمالها ذوي المهارات العالية، استطاعت الشركات الصغرى والمتوسطة الرفع من إنتاجيتها عندما انتعشت السوق الصينية بعد الدعم المالي الذي خصصته الحكومة وتنامي الطلب على المنتوجات الألمانية. أما في أميركا فقد بات من الصعب العثور على شركات صغرى ومتوسطة ناجحة، كما هو الحال عليه في ألمانيا، بحيث ظلت هذه الأخيرة بمنأى عن التقلبات المالية التي هزت وول ستريت وتأثر أصحاب الأسهم، وهو ما عبر عنه "هوبر" بالقول: "خلافاً للشركات الأميركية التي تركز على الأهداف الآنية، وتلجأ للاستثمار في البورصة، نركز نحن على الأهداف الاستراتيجية". فالشركات الألمانية ليست مفتوحة للتداول التجاري العام، كما أنها تستفيد من برنامج مكثف للتعليم المهني تشرف عليه الحكومة الألمانية، بالإضافة إلى قطاع بنكي محلي يجمع المدخرات وتسيره السلطات البلدية بحيث لا يعمل إلا مع الشركات المحلية ولا يقدم خدماته لغيرها، بحيث تحصل ثلثا الشركات الألمانية تقريباً على تمويلها من تلك البنوك المحلية. هذا التوجه المحلي للبنوك الألمانية يوضحه "باتريك ستينباس"، كبير الاقتصاديين لدى المنظمة الوطنية لبنوك الادخار، قائلا: "تنحصر أنشطة بنوكنا في مناطقها، وهي تركز على الاقتصاد الحقيقي وليس المضاربة". ورغم الضغوط التي تشعر بها الشركات الألمانية الكبرى في القطاع الصناعي، مثل فولزفاجن وزيمنز وبي إم دابليو... فإنها خلافاً لنظيرتها الأميركية، مازالت تجني أرباحاً مهمة من استثماراتها في السوق الداخلية، وهو ناتج في جزء كبير منه عن نظام الإدارة المشتركة المعمول به في ألمانيا الذي يشرك أفراداً من النقابات والإدارة في مجالس الشركات على نحو متساو، ما يجعل الأهداف واحدة ومشتركة؛ مثل تعاون نقابات عمال مصانع السيارات مع المديرين لتدريب العمال على إنتاج سيارات كهربائية، تعاون عبر عنه "مارتن أليسباش"، مدير السياسات في النقابة العمالية، قائلا: "هدفنا هو اكتساب مهارات جديدة تحقق قيمة مضافة عالية للصناعة الألمانية". والخلاصة أن الاقتصاد الألماني، من خلال جمعه بين المبادئ الديمقراطية والقيم المحلية، استطاع التفوق على نظيره الأميركي. وفي هذه الإطار يقول هوبر "إن ما لدينا في ألمانيا هو رأسمالية أصحاب المسؤولية، وليس رأسمالية أصحاب الأسهم". ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبورج نيوز سيرفس"