تشير "جيل ليبور"، أستاذة التاريخ الأميركي بجامعة هارفارد، ومؤلفة الكتاب الذي نعرضه هنا، وعنوانه "بياض عيونهم... ثورة حزب الشاي والمعركة من أجل التاريخ الأميركي"، تشير في بداية كتابها إلى وقائع من التاريخ الأميركي، إبان الأزمة المالية الطاحنة التي قادت إلى الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وكيف أن الكثير من المواطنين العاديين تعرضوا للعسر المالي والإفلاس دون أن يجدوا العون من مواطنيهم الأكثر يسراً. وتقارن المؤلفة بين تلك الوقائع ووقائع مماثلة خلال الأزمة المالية الأخيرة التي ضربت قطاع الرهونات العقارية وأثرت على حياة ملايين الأسر الأميركية، دون أن تتلقى تلك الأسر مساعدات ذات شأن، مما جعل أحد الكتاب الصحفيين يقول في تحليله لما حدث: "لو قرأنا ما فعله آباؤنا المؤسسون، مثل فرانكلين وجيفرسون في أوقات الأزمات الكبرى التي واجهت الأمة الأميركية... فإن ما نفعله الآن كفيل بأن يجعلهم يتقلبون في قبورهم". قراءة "ليبور" لمثل تلك العبارات، تختلف بالطبع عن قراءة القارئ العادي، فهي تتميز بأنها تعرف أصل مصطلح "الآباء المؤسسون"، وتعرف كيف دخلت عبارة "يتقلبون في قبورهم" مجال التداول اللغوي. وقد انزعجت "ليبور" كثيراً من القراءات الاختزالية السطحية والخاطئة للتاريخ الأميركي، ومحاولة جهات معينة، مثل "حزب الشاي" الذي ازداد نفوذه مؤخراً في المشهد السياسي الأميركي، اختطاف هذا التاريخ من خلال ادعاء أدوار بطولة يتم تضخيمها بأكبر من حجمها الحقيقي. وتقدم "ليبور" قراءتها الخاصة للتاريخ من خلال المزج بين آرائها، وبين آراء أعضاء حركة "حزب الشاي" وتحاول تفنيد مزاعم قيادات تلك الحركة حول دورهم الحاسم في التاريخ، مستعينةً في ذلك بمعرفتها الوثيقة بالآباء المؤسسين للولايات المتحدة ( القادة الذين وقعوا إعلان الاستقلال في عام 1776 أو شاركوا في الثورة الأميركية، أو شاركوا في صياغة وتبني دستور الولايات المتحدة في عام 1787-1788) كما تستعين بمعرفتها الوثيقة بحركة "حزب الشاي" ونشأته التاريخية والظروف التي دعت قادته المعاصرين للادعاء بأنهم كانوا وقود الثورة. وتقول إنه حزب نشأ في الأصل عام 1773 للاحتجاج ضد فرض الإمبراطورية البريطانية ضرائب على المواطنين الأميركيين، واتخذت احتجاجته في ذلك الوقت طابعاً فوضوياً مهد، ضمن أشياء أخرى عديدة، للثورة الأميركية. فالحزب لم يكن هو الذي خلق الثورة، كما يدعي زعماؤه، لأن عوامل تلك الثورة كانت موجودة وكامنة بالفعل. وتقول المؤلفة إن حركة حزب الشاي يجب ألا تكتفي بتنظيم حملات دعاية ذكية، في إطار المعركة الرامية لتحديد ملامح التاريخ الأميركي، تدعي من خلالها العراقة والانتماء إلى الأصول الراسخة للأمة، سعياً إلى نيل مكاسب سياسية وقتية. وبعد تحليل معمق، قامت فيه بتأطير ثورة حزب الشاي من خلال تعقب أصولها والنتائج التي أدت إليها، تقول المؤلفة إن الحركة بعد أن كانت قد توارت لعقود طويلة، وخفت صوتها، وتضاءل دورها، عادت إلى الظهور والفعالية مرة أخرى عند الاحتفال بالمئوية الثانية لنشأة الحركة في سبعينيات القرن الماضي، وهي فترة شهدت فيها الولايات المتحدة فضائح سياسية وانقسامات واستقطابات حادة وحيرة شاملة بشأن التاريخ الأميركي ووقائعه وحقائقه والدور الذي لعبه الآباء المؤسسون، والثورات وحركات الاحتجاج والمعارضة، ومنها حركة "حزب الشاي"، ومساهمة كل منها في رسم ملامح ذلك التاريخ. تقول المؤلفة إنه عند قراءة منظري حركة "حزب الشاي" لوقائع التاريخ الأميركي، فإن تلك القراءة تحمل في طياته نوعاً من الحنين الغامض لفترة مضطربة من فترات التاريخ الأميركي أدت فيها الحزبية المريرة، والعسر الاقتصادي، وانعدام اليقين... إلى إفراز مناخ مواتٍ أتاح للحركة الظهور والفاعلية والمساهمة في الشأن العام والادعاء بعد ذلك بأدوار لم يكن معظمها حقيقياً. كما تقول المؤلفة إن القراءة الصحيحة للتاريخ ليست متاحة للجميع، إذ تتطلب تحقيقاً دقيقاً، وتنقيباً عميقاً، وخيالا مبدعاً، وقدراً من التماهي وجدانياً مع شخوص ذلك التاريخ ووقائعه وإحداثه. بعد ذلك تهاجم المؤلفة أصولية الحركة وتطرفها وتبنيها دور المعارض الدائم وتنظيمها للاضطرابات والاحتجاجات التي أضرت أكثر مما نفعت، وأشاعت الفوضى والاضطراب. والمؤلفة في ذلك كله تنطلق من فهم خاص للتاريخ الأميركي، والذي في رأيها لا يجب أن يكون مطية الأهواء، كما لا يجب أن يوظف كأداة للدعاية الزاعقة لحركات احتجاجية تدعى بطولة زائفة. على أن الكاتبة تستدرك بالقول إنه لا خلاف على أن حركة حزب الشاي قد لعبت أدواراً مفيدة أحياناً في التاريخ الأميركي؛ فتوصيف الزعيم الزنجي وداعية الحقوق المدنية الشهير "مارتن لوثر كنج" للحركة بأنها لم تكن -في تاريخانيتها- مجرد حركة احتجاج على الضرائب من قبل السلطات البريطانية دون الرجوع للأميركيين، وإنما كانت في جوهرها حركة عصيان مدني... كان توصيفا لابد أن يقوده في النهاية إلى الاستعانة بخدمات الحركة في دفع حركة الحقوق المدنية التي يتزعمها قدماً للأمام. سعيد كامل الكتاب: بياض عيونهم... ثورة حزب الشاي والمعركة من أجل التاريخ الأميركي المؤلفة: جيل ليبور الناشر: برينستون يونيفرستي برس تاريخ النشر: 2010