في عام 1948، حين أعلن عن قيام "إسرائيل"، قال بن غوريون، أول رئيس لوزراء الكيان الجديد: "نحن أسميناها الآن دولة إسرائيل". وفي خطابه الرسمي الذي ألقاه في الثاني من سبتمبر 2009 أمام المؤتمرين في واشنطن لبدء المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين، قال نتنياهو: "إننا نتوقع منكم الاستعداد للاعتراف بإسرائيل بصفتها الدولة القومية للشعب اليهودي، مثلما تتوقعون منا أن نستعد للاعتراف بالدولة القومية للشعب الفلسطيني". والملاحظ أنه منذ قيام إسرائيل وهي تبحث عن طابعها القومي العنصري الذي أقيمت من أجله. وفي الملخص، فإن إسرائيل ترى في مشروع "يهودية الدولة" تأكيداً على أن الأرض والحكم والحكومة هي من حق اليهود "أصحاب الأرض" دون غيرهم، مع حقهم بطرد أو إبعاد من لا تثبُتُ مواطنتُه الصالحة من غير اليهود الدخلاء عليها! والحمد لله على أنه لا يختلف فلسطينيان، المسؤول الرسمي قبل الناشط المعارض، في رفض مقولة "يهودية الدولة". وقد ظلت القيادات الفلسطينية متمسكة برفض هذا الشرط الإسرائيلي، بل سجل الرئيس الفلسطيني، مراراً وتكراراً، رفضه لهذا المطلب. كما أعلنت حركة "فتح" رفضه معتبرة أن "الاعتراف بيهودية إسرائيل ليس مخالفاً للقانون الدولي وحسب، بل إجازة لحرمان وتهجير ملايين الفلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم في وطنهم التاريخي، وهذا لن يكون أبداً". وأضافت الحركة: "لا يمكن لأي فلسطيني مهما كان موقعه أن يعترف بإسرائيل كدولة يهودية بأي حال". وفي السياق ذاته، أكدت حركة "حماس" أن "الاعتراف بـ"يهودية إسرائيل" هو الموافقة على تمرير مخطط تصفية القضية وإضاعة الحقوق، لأن الحقوق لا تسقط بالتقادم ولا تسقط بالتخاذل"، معتبرة أن "الجريمة التي يعد لها اليوم لتصفية القضية هي جريمة ترحيل الفلسطينيين من أرضهم، وإسقاط حق العودة والاعتراف بيهودية الدولة". كما اعتبرت "الجبهة الشعبية" أن الموافقة على "يهودية الدولة" تساهم في "الحملة الإسرائيلية لتقويض حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف في العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة وعاصمتها القدس". وكذلك الحال بالنسبة لفلسطينيي 48. فالنائب الدكتور جمال زحالقة، رئيس كتلة "التجمع الوطني الديمقراطي" البرلمانية في الكنيست، هاجم من يوافق من الفلسطينيين على "يهودية الدولة"، معتبراً أنه "لا يحق لأي فلسطيني أن يبيع حقوق الفلسطينيين في الداخل، وأن يتنازل عن حقوق اللاجئين في الشتات، وأن يمنح شرعية فلسطينية لذلك عبر الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية". يكمن الهدف الإسرائيلي بالبحث عن "شرعية فلسطينية" أولاً، ومن ثم عالمية ثانياً، "لخلق تاريخ وتراث يهودي" يبرر ويعزز الرواية الصهيونية، واصطناع "أمة وقومية يهودية" و"ثقافة يهودية"، ومن ثم ربطها بما هو احتلال موجود على الأرض. فبعد أن تأكدت إسرائيل من كونها على الخريطة السياسية والجغرافية العالمية، أدركت هزال وجودها على الخريطة الثقافية والتراثية، فنراها مثلاً تعمد إلى تسجيل العديد من المواقع في سجلات "اليونسكو"، بل تحاول نقل الإرث التاريخي الإسلامي والروماني إلى خانة "التاريخ اليهودي". من هنا، تم التركيز على "يهودية الدولة" في محاولة لإعادة إنتاج "كذبة أرض الميعاد" بحقائق ملموسة وليس اعتماداً على "خرافات توراتية" فقط. فإسرائيل فشلت حتى الآن في الحصول على اعتراف دولي بالحق التاريخي لـ"الشعب اليهودي" في فلسطين. وهذا الأمر كان قد أكده قرار الأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 والخاص بتقسيم فلسطين، حيث جعل عدد السكان في الدولة العربية المقترحة 700 ألف عربي بينهم 10 آلاف يهودي، وعدد سكان الدولة اليهودية 446 ألف يهودي ومعهم 490 ألف عربي. وهذا الواقع يدل دلالة قاطعة على أن العالم لم ينظر إلى الدولة اليهودية كدولة "الشعب اليهودي"، لأن عدد السكان العرب فيها كان أكثر من عدد السكان اليهود، فضلاً عن القرار 194 الصادر عن المنظمة الدولية في عام 1949، والذي يؤكد مرة تلو المرة على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وحقهم في التعويض. وفي هذا الإطار، ينظر بعض المراقبين إلى "يهودية الدولة" باعتبارها اعترافاً إسرائيلياً بالفشل في جذب مزيد من يهود العالم. فالحركة الصهيونية وإسرائيل تعتبران اليهود في جهات الأرض الأربع بمثابة المادة البشرية لتحقيق أهداف إسرائيل التوسعية من جهة، وركيزة لاستمرار المشروع الصهيوني برمته في المنطقة العربية من جهة أخرى. لكن رغم مرور 62 عاماً على إنشاء إسرائيل، لم تستطع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جذب سوى 40 في المئة من يهود العالم إلى فلسطين. لقد بدأت إسرائيل "الضغط" على القيادة الفلسطينية عملياً منذ مؤتمر أنابوليس في 27/11/2007 عبر محاولة استصدار وثيقة إسرائيلية فلسطينية مشتركة تتضمن موافقة فلسطينية على فكرة يهودية الدولة، أي منح صك براءة فلسطيني لإسرائيل عن تطهيرها العرقي الذي مارسته وما زالت منذ عام 1948. والأنكى أن ذلك يمهد لتنفيذ "ترانسفير" صهيوني إضافي بحق من تبقوا من الفلسطينيين. إلى ذلك، فإن الاعتراف بإسرائيل كدولة "الشعب اليهودي" يحمل في طياته العديد من الأخطار والتداعيات. ففضلاً عن كونه قبولاً بخلع وترحيل فلسطينيي 1948 ومصادرة أملاكهم، وحرمان ملايين اللاجئين من حقهم في العودة والتعويض، فإنه ينطوي على خطورة إضافية فادحة. فنظرياً، لو تمت الموافقة فلسطينياً على "يهودية إسرائيل"، فلن تقام دولة فلسطينية عاصمتها القدس، إذ ستواجه بالقوانين الإسرائيلية التي ضمت القدس وجعلتها "عاصمة إسرائيل الأبدية"، فضلاً عن النظرة الإسرائيلية لأراضي الضفة باعتبارها "يهودا والسامرة" التابعة لـ"الدولة اليهودية". كما أن "موافقة" الفلسطينيين على "يهودية الدولة" سيترتب عليها مستقبلاً إلزامهم بدفع تعويضات لليهود على اعتبار أنهم "أصحاب الأرض" بعد "حرمانهم" من القدوم و"الاستيطان" في فلسطين! ونختم بما قاله سوماس ميلن في "الغارديان" حين أوضح أن "التجربة الفلسطينية داخل إسرائيل، من مصادرة الأراضي، إلى بناء المستوطنات، إلى التمييز العرقي... لا تختلف كثيراً في نهاية المطاف عما حدث في القدس الشرقية والضفة الغربية". ثم يضيف أنه بعد 1948 "أُجبر الفلسطينيون في يافا، والذين نجوا من التطهير العرقي، على مشاركة منازلهم مع المستوطنين اليهود، كما يحدث في القدس اليوم". هذا ناهيكم عن أن أي قبول بإسرائيل "دولة يهودية" يعني إقفال الباب نهائياً أمام حق اللاجئين في العودة، وهو الأمر المرفوض وطنياً وأخلاقياً وسياسياً.