استمدت اللغة العربية مكانتها الرفيعة من قدسية الكتاب الكريم الذي نزل بها مُبيَّناً ومُبيِّناً، لذلك فالانتصار لها هو انتصار للأمة العربية التي كرّمها الله بذلك الكتاب المعجزة، كما أنه أرقى فعالية إنسانية يمكن أن يقوم بها أبناء العروبة جميعاً. فأمة لا تحترم لغتها هي أمة بلا ملامح، أحرى إن كانت لغة بمستوى ثراء اللغة العربية وقدرتها على التعبير والتصوير والتفكير. وفي كتابه "اللغة العربية وتحديات العولمة"، يُبرز الدكتور هادي نهر العلاقة الجدلية بين الإنسان العربي واللغة العربية، بين سياق هذا الإنسان -بمنجزاته الحضارية والعلمية والتقنية- وبين ذلك السياق بأمكنته وأزمنته وأوجه فعله المختلفة، وبين الإنسان العربي كوعي لغوي والإنسان ذاته كفعل وكوجود تاريخي. ويقدم الكتاب جرداً بأهم المحطات التاريخية للغة العربية، قائلا إنه فُرض عليها منذ القدم، صراع مرير مع غيرها من اللغات، وكان هذا الصراع وجهاً لصراعات خاضها العرب ضد الغزاة والطامعين والمستعمرين، وفي مواجهة ما تعرضوا له من تحديات وتهديدات. وقد كُتب للغة العربية أن تنتصر دائماً، لقوتها وحصانتها غير العاديتين. وفي أزمنة السلم استطاعت اللغة العربية، منذ القرن السابع الميلادي، أن ترافق مسيرة الناطقين بها عبر شمال إفريقيا، وشبه الجزيرة الأيبرية، وفي أواسط آسيا وجنوبها الشرقي وفي شبه القارة الهندية... تقوى بقوتهم وتضعف بضعفهم. وقد تجلى تأثيرها في اللغات التي احتكت بها، مثل الإسبانية والبرتغالية والإيطالية والألمانية والإنجليزية... منذ القرون الوسطى. فهل بقي للغة العربية حالياً شيء من قدراتها وأمجادها الماضية؟ يتطرق المؤلف إلى العولمة الثقافية باعتبارها عملية تسعى لبناء ثقافة كونية ذات عناصر عالمية مشتركة، تتضمن نسقاً من القيم والمعايير مرادفاً للغة الإنجليزية التي يراد لها أن تهمش الخصوصيات اللغوية للشعوب الأخرى. وأمام هذا الواقع الجديد، يلفت المؤلف النظر إلى التحديات التي تواجه اللغة العربية، وعلى رأسها لغة العولمة الثقافية (اللغة الإنجليزية) التي أصبحت أداة للهيمنة الثقافية والاقتصادية والإعلامية، على نحو يعكس قيماً استهلاكية لا تتناسب بالضرورة مع قيم الأمم العريقة، مثل العرب والصينيين والروس والهنود والكوريين والألمان والفرنسيين والإيطاليين، وغيرهم. كما يناقش قضية التعريب أو الترجمة، بوصفها عملية عبور إلى المعرفة، ومن ثم فهي معركة حضارية ومصيرية، موضحاً أن الاختراق الثقافي الذي يجري باسم الحداثة والعولمة ومواكبة العصر، إنما يمر عبر اللغة أول ما يمر، مما يستدعي تنشيط جهود التعريب والترجمة في جامعاتنا ومعاهدنا العليا. وعن واقع التعريب في عصرنا الحالي، يقول المؤلف إن هناك دعوة تسللت إلى مجتمعاتنا العربية، مفادها أن اللغة العربية عقيمة وعاجزة عن مسايرة ركب الحضارة، وأنها لغة دين وشعر فحسب، ولا تصلح لاستيعاب النهضة المعاصرة أحرى أن تكون لغة علم، بل هي عاجزة في حالتها الراهنة عن اللحاق بالمنجزات العلمية والفلسفية... ومن ثم تتوجب دراسة وتدريس المعارف والعلوم باللغات الأجنبية. لكن المؤلف يفند تلك الدعاوى، مبيناً أن أي لغة يمكن أن تكون لغة علم وبحث وتدريس ونشر وتأليف... إذا ما استطاع أهلها استيعاب العلوم وصاروا يألفون بها، فاللغات الفرنسية والإنجليزية والروسية والألمانية واليابانية والصينية... لم تكن حتى القرن الخامس عشر الميلادي لغات علم وبحث، لكن أصحابها ترجموا العلوم العربية والإغريقية والهندية، فأصبحت لغات حاضنة للعلم وقادرة على استيعابه وإنتاجه. ثم إن العربية ليست لغة بدائية لا تقبل الجديد والمتطور، بل لغة حية تمتلك من الوسائل ما يجعلها لغة علم وحضارة، لكن المشكلة تكمن أساساً في أصحابها حين يكرسون الثنائية اللغوية، ويتقاعسون عن نشر لغتهم، ويفرطون في وحدتهم الثقافية، وينظرون للتعريب كقضية عاطفية لا أكثر! ويؤكد المؤلف في مواضع مختلفة من كتابه أن إشكالية التعريب لا تكمن في نقص الطاقة التعبيرية للغة العربية التي تملك سائر أدوات الاتصال والتواصل مع العلوم والمعارف والفلسفات، وقد استطاعت أن تحمل رسالة السماء إلى البشرية جميعاً... وإنما تكمن الإشكالية في أهل هذه اللغة الذين لم يعودوا ذوي إسهام في فاعل في العلم وتقنياته وابتكاراته. وفي هذا الخصوص ينتقل المؤلف من نقد الخلط بين موضوعية الحقائق وجاهزية الأحكام، إلى اقتراح أسس ومنطلقات متينة للتعريب، خاصة فيما يتعلق بالمعوقات المفاهيمية، وإيجاد نموذج عربي للنهوض العلمي والمعرفي الأصيل، وتحديد الأهداف من الترجمة والتعريب... وفيما يتعلق أيضاً بالمصطلحات والمعرفة، والحاجة إلى معجم لغوي عربي متطور، وأخيراً إعادة الاعتبار لخصوصية اللغة وعبقريتها الخلاقة. محمد ولد المنى الكتاب: اللغة العربية وتحديات العولمة المؤلف: د. هادي نهر الناشر: عالم الكتب الحديث تاريخ النشر: 2010