لفت نظري ملف متميز نشرته مجلة "آفاق المستقبل"، التي يصدرها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، وهي مجلة ممتازة، وذلك في عددها الصادر في سبتمبر وأكتوبر 2010 وكان بعنوان "تراجع الإيديولوجيا.. تقدم قوى المجتمع المدني" واشتمل الملف على مقالات مهمة، وتصدرته مقالة للباحث العراقي حيدر سعيد عنوانها "نهاية الحزب.. بداية المجتمع المدني". وقد أثار فيها سؤالاً بالغ الأهمية، هو نهاية عصر الأحزاب السياسية وبداية عهد مؤسسات المجتمع المدني. وقد حاول من خلال عرض تاريخي وتحليلي متميز أن يدلل على صدق مقولته، التي تحتاج إلى تأمل نقدي عميق. غير أن مقدمة الملف التي كان عنوانها "واقع الاجتماع السياسي العربي: من الأحزاب إلى المجتمع المدني وما بعده". اشتملت على مجموعة من الأفكار المحورية التي تحتاج إلى تحليل متعمق. والمقولة الأولى تتضمن حكماً قاطعاً مفاده أنه في بلاد عربية متعددة تتبلور قوى سياسية واجتماعية جديدة، تحاول أن تقود العمل العام والشعبي والسياسي المنظم. وهذه القوى تتقدم لكي تشغل فراغاً يحدثه تراجع الأحزاب والإيديولوجيات. والسؤال المهم هنا هو: هل تراجعت الإيديولوجيات حقيقة أم أن إيديولوجيات سقطت أو ضعفت وذوت، ولكن قامت بدلاً منها إيديولوجيات أخرى؟ في تقديرنا أنه لا يمكن الحكم على صدق المقولة إلا لو رجعنا بالذاكرة إلى الجدل العالمي الذي أثارته أطروحات عالم الاجتماع الأميركي الشهير "دانيل بل" والتي نشرها في السبعينيات عن "نهاية الإيديولوجية". وقد أثارت هذه الأطروحة جدلاً علميّاً محتدما، وربما كان السبب أنها طرحت في سياق عالمي كانت تدور فيه المباراة الإيديولوجية الكبرى بين الشيوعية في تطبيقها السوفييتي، والرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية. ولذلك لم يكن الجدل الفكري حول الفكرة يتسم بالصفاء "الموضوعى" -إن صح التعبير- لأنه كان مشوباً بظلال الهجوم الرأسمالي على الماركسية وتطبيقها الماركسي اللينيني، باعتبار ذلك كان فصلاً من فصول الحرب الإيديولوجية التي دارت بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، خصوصاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. وقد أتيح لي أن أتابع هذا الجدل الفكري المحتدم بحكم اهتماماتي المبكرة بعلم اجتماع المعرفة، ودراساتي التي نشرتها في مجلة الكاتب عام 1970 عقب عودتي من بعثتي العلمية إلى فرنسا، عن "الإيديولوجية والتكنولوجيا". وبدون أن نخوض في خضم التعريفات النظرية للإيديولوجيا يمكن أن نعتمد على تعريف "كارل مانهايم" رائد علم اجتماع المعرفة، الذي تحدث عن المفهوم العام للإيديولوجيا، ويعني بها سمات وبناء التفكير الكلي لعصر ما أو لطبقة اجتماعية معينة، حين تكون معنية بسمات وتكوين البناء الكلي لهذا العصر أو لهذه الطبقة. والإيديولوجية هنا تعني جماع التصورات التي تعتنقها هذه الطبقة لتبرير وضعها في المجتمع. وبناء على هذا التعريف نستطيع أن نخلص إلى نتيجة بالغة الأهمية هي أن وجود الإيديولوجيات باعتبارها تعبر عن الأهداف الأساسية للمجتمع وتبريرها لصيق بوجود المجتمع الإنساني. وبعبارة أخرى قد تسقط إيديولوجية معينة كالشيوعية الجامدة أو الرأسمالية المتطرفة، ولكن لابد أن تنهض على أساسها إيديولوجيات أخرى لأنها ضرورية لتوجيه السلوك السياسي والاقتصادي والثقافي في المجتمع. وهكذا يمكن القول إن الإيديولوجيات لم تتراجع، ولكن سقط بعضها في الممارسة، كما سقطت دولة الاتحاد السوفييتي نتيجة تناقضاتها الداخلية والضغوط الخارجية عليها، وكما سقطت الرأسمالية المتطرفة، ولكن حلت محلها إيديولوجية أخرى هي الليبرالية الجديدة. ولكننا -على العكس- نقبل مقولة تراجع الدور التقليدي للأحزاب السياسية، وصعود دور مؤسسات المجتمع المدني. ومنطق هذا التراجع -وهذا تفسير مهم للغاية- هو أننا نعيش عصر الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. ومشروع الحداثة الأوروبي هو الذي كان أساس مولد الدولة الحديثة بسلطاتها الثلاث التقليدية التنفيذية والتشريعية والقضائية، في ظل مبدأ الفصل بين السلطات، بالإضافة إلى معالم بارزة أخرى لعل أهمها على الإطلاق وجود دستور يحدد طبيعة النظام السياسي وينص على حقوق المواطنين وواجباتهم، وظهور الأحزاب السياسية باعتبارها أحد أسس النظام الديمقراطي الذي يقوم على أساس التعددية. غير أن مشروع الحداثة الغربية وجهت له انتقادات حادة عبر عنها "دانيل بيل" مرة في إحدى محاضراته حين قرر في عبارة قاطعة أن "الحداثة وصلت إلى منتهاها"، بمعنى أنها لم تحقق وعودها التي قامت على أساس احترام الفردية والعقلانية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا لحل مشكلات البشر، وتبني نظرية "خطية" Linear عن التقدم، بمعنى أن التاريخ يتقدم من مرحلة إلى مرحلة أخرى. وقد أدى هذا النقد العنيف -الذي ليس لدينا مجال للتفصيل فيه- إلى نشوء حركة "ما بعد الحداثة" التي -على العكس حركة الحداثة- لا تتبنى مفاهيم عامة مجردة عن "الحقيقة"، ولا تنطلق من الإيديولوجيات أو "السرديات الكبرى" كالاشتراكية أو الماركسية أو الرأسمالية، ولا تقبل أن تدعي أي حركة فكرية أنها تمتلك الحقيقة المطلقة. ولذلك أعلنت حركة "ما بعد الحداثة" سقوط الإيديولوجيات باعتبارها أنساقاً فكرية مغلقة، وصعود الأنساق الفكرية المفتوحة التي تقبل بالتأليف الخلاق بين تغيرات كان يظن من قبل أنه لا يمكن التأليف بينها، مثل العلمانية والدين، والقطاع العام والقطاع الخاص. وهذه الأنساق الفكرية المفتوحة أصبحت لا تركز على المتن الرئيسي Text بالمعنى الواسع للكلمة، ولكن على الهوامش التي عاشت في ظلال الإهمال سنين طوالاً. وبعبارة أخرى انتهى عهد الاهتمام بالطبقات الاجتماعية، وآن أوان التركيز على الشرائح الاجتماعية الطبقية، والجماعات الفرعية، والأقليات والأفراد. مثلما تحول الاهتمام من التركيز على الأحزاب السياسية العريضة بتنوعاتها الإيديولوجية المختلفة، التي أثبتت الممارسة الفعلية في نظم ديمقراطية شتى أنها عجزت عن إشباع الحاجات الأساسية للجماهير، وضاع التمايز في خطابها الإيديولوجي، بعد أن ذابت الفروق بين اليمين واليسار بسبب طغيان عصر العولمة وانهيار الحركات الإيديولوجية اليسارية وانهيار نظريات التخطيط الاقتصادي لحساب اقتصادات السوق، مما أدى إلى صعود مؤسسات المجتمع المدني بأنماطها المتعددة التي تركز على حقوق الأفراد السياسية والاقتصادية والثقافية بعيداً عن شعارات الإيديولوجيات الكلية التي كانت تدعي -في ظل مزاعم احتكار الحقيقة المطلقة- حل مشكلات البشر. وقد أدى ذلك إلى ضعف الإيمان بالأحزاب السياسية باعتبارها -وفقاً للعبارة الشهيرة- ممثلة لمصالح الجماهير، وتصاعدت الثقة في قدرة مؤسسات المجتمع المدني، التي لديها قدرة على التفاعل المباشر مع الناس. وما نستطيع أن نجزم به هو أن العالم كله وليس في المجتمع العربي فقط يمر بمرحلة انتقال سياسية كبرى من الديمقراطية التقليدية بأحزابها السياسية المتنافسة إلى عصر ما بعد الديمقراطية، الذي لم تتضح معالمه بعد، مثلما انتقل العالم من عصر الحداثة إلى عصر ما بعد الحداثة الذي هو الأساس لعصر العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والفكرية. ومن هنا يمكن القول إن ربط ظاهرة تضاؤل دور الأحزاب السياسية بشكل عام بالانتقال من مرحلة الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة نراه تفسيراً بالغ الأهمية، لأنه يتجاوز التفسيرات السطحية التي سبق وأن صيغت كمحاولة لفهم التحولات السياسية الكبرى في العالم.