على رغم تكرار حملات التوعية ضد مخاطر التدخين من قبل الجهات الصحية المحلية والدولية إلا أن الكثير من الحقائق المتعلقة بهذه العادة السيئة والمميتة لا زال غائباً عن أذهان كثيرين، فعلى سبيل المثال، قلة هم مَن يدركون أن التدخين يتسبب في عدد من الوفيات يزيد في محصلته النهائية عن إجمالي الوفيات التي يتسبب فيها الإيدز، والمخدرات، وحوادث الطرق، وجرائم القتل، وحوادث الانتحار، والمضاعفات التي تنتج عن الأدوية والعقاقير الطبية، مجتمعة. فمن بين أكثر من ستة مليارات شخص هم عدد أفراد الجنس البشري حاليّاً يتوقع أن يقتل التدخين منهم حوالي نصف مليار، وهذه المذبحة الإنسانية ربما تكون من المنظور التاريخي أحد مظاهر سخرية ومكائد التاريخ، أو انتقامه في الحقيقة، في ظل كون التبغ من المنتجات التي لم يعرفها العالم القديم إلا بعد اكتشاف العالم الجديد المكون في غالبه من الأميركتين، وهو الاكتشاف الذي نتجت عنه مذابح غير مسبوقة للسكان الأصليين في القارة الأميركية. ويتهكم البعض، في هذا المقام، مدعين أن نزيف ضحايا استخدام التبغ حاليّاً في العالم القديم ما هو إلا انتقام لآلهة "الآزتيك" و"المايا"، على المذابح التي ارتكبت ضد شعوبهم، أي الهنود الحمر! وأمام هذا الوضع العالمي تبذل الجهات الصحية والمؤسسات الطبية جهوداً حثيثة، بهدف تقليل تأثير تدخين التبغ على الصحة العامة، والحد من سقوط المزيد من الأشخاص في شباك إدمان النيكوتين، وخصوصاً بين الأطفال والمراهقين. وقد تبلورت هذه الجهود خلال الأسبوع الماضي، في شكل هجوم مزدوج على صناعة التبغ، في الأوروجواي وبريطانيا في الوقت نفسه. ففي نهاية مؤتمر دولي حول التبغ في أوروجواي، حضره ممثلون عن 170 دولة من الموقعين على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التبغ، صدرت توصيات بضرورة إرغام شركات صناعة التبغ على الإفصاح عن المضافات التي تخلط مع التبغ لإنتاج السجائر في شكلها النهائي المعتاد، مع السعي للتقليل من هذه المضافات والحد منها، وربما منعها تماماً. وهذه التوصيات تشير إلى حقيقة أخرى لا يدركها معظم المدخنين وهي أن ما يدخنونه بشكل يومي، لا يقتصر على أوراق التبغ فقط، بل يحتوي أيضاً على قائمة من المواد الكيميائية، يبلغ عددها 599 مادة ومركباً كيميائيّاً، غير موجودة بشكل طبيعي في التبغ، وإنما تمت إضافتها من قبل الشركات المصنعة للسجائر. والغريب في هذا الموضوع، أن هذه المضافات، على عكس المضافات الكيميائية التي تضاف للمنتجات المخصصة للاستهلاك الآدمي، لا يتوجب على شركات صناعة التبغ الإفصاح عنها، أو ذكرها على العبوة. وهو ما يعني أن شركات صناعة التبغ معفية ومستثناة من ذكر مكونات السلعة التي تبيعها، مما يعطي الانطباع الخاطئ لدى غالبية المدخنين بأن ما يستنشقونه يوميّاً هو مجرد دخان أوراق نبات التبغ، وإن كانت الحقيقة هي أن ما يستنشقونه هو دخان 599 مركباً كيميائيّاً مختلفاً. والأغرب من هذا، أن هذه المضافات وعلى رغم أنها اختبرت سلامتها كمضافات للطعام، إلا أن أثر حرقها، ومن ثم استنشاق الغازات الناتجة عنها، لم يختبر قط على البشر، وغير معروف بالمرة مدى أمانه وسلامته على الصحة، وخصوصاً على أنسجة الرئتين، وإن كان بعض هذه المركبات، مثل مركب الأمونيا، الذي يستخدم لزيادة وقع وتأثير التبغ على المدخنين، معروف عنه أنه مركب حارق ومن الخطر الكبير استنشاق غازاته. ومن المعروف والثابت أيضاً أن دخان التبغ يحتوي على 60 مادة مسرطنة، أو 60 مادة من المواد المعروف عنها تسببها في الإصابة بالسرطان، وخصوصاً سرطان الرئة، وهو ما يجعل التدخين، السبب الرئيسي خلف الإصابة بسرطان الرئة، وبالتالي مسؤولاً عن 90 في المئة من الوفيات الناتجة عن سرطان الرئة في العالم الغربي والصناعي. وجدير بالذكر أن سرطان الرئة يعتبر أكثر الأمراض السرطانية خبثاً وفتكاً على الإطلاق، حيث يتسبب في وفاة ثلاثة ملايين شخص حول العالم سنويّاً. وعلى رغم أن سرطان الرئة يقع في المركز الثاني في قائمة أكثر الأمراض السرطانية انتشاراً في الدول الغربية، إلا أنه يحتل رأس قائمة الوفيات الناتجة عن الأمراض السرطانية على الإطلاق، وهو ما يعني أن سرطان الرئة يتسبب في نسبة من الوفيات بين المصابين به، هي الأعلى بين أنواع الأمراض السرطانية جميعها. أما الهجوم الآخر الذي تعرضت له صناعة التبغ هذا الأسبوع، فقد أتى من العاصمة البريطانية، من خلال مطالبة وزير الصحة بمنع استخدام الألوان البراقة والتصميمات الجذابة على علب السجائر، لمنع انجذاب الأطفال إليها في سن مبكرة، بسبب تشابهها مع عبوات ومغلفات الحلوى. وتتضح أهمية الألوان والتصميمات على علب السجائر من إطلاق صناعة التبغ لقب "البائع الصامت" عليها، بسبب قدرتها على جذب مستهلكين جدد، دون أن تتفوه بكلمة واحدة. وحتى بين البالغين والمدخنين القدامى، تلعب الألوان دوراً مهمّاً في جعل كثيرين منهم ينغمسون في الإدمان بدرجات أعمق وأخطر، من خلال الإيحاء مثلاً بأن العلب الرصاصية اللون، أو الزرقاء، أو المطعمة بطعم النعناع، هي أقل خطراً وضرراً من تلك الأخرى ذات الألوان الحمراء الزاهية. جدير بالذكر هنا أيضاً أن أسعار الماركات العالمية من السجائر هي الأقل على مستوى العالم في الدول العربية. ففي حين أن كثيراً من الدول الأوروبية استخدمت سلاح الضرائب الباهظة على منتجات الدخان لرفع الأسعار بدرجات كبيرة، إلا أن الجهات التشريعية والتنظيمية في الدول العربية لا زالت متقاعسة إلى حد كبير عن استخدام هذا السلاح، الذي أعتقد شخصيّاً أنه من أكثر الأساليب فعالية في الحد من تزايد عدد المدخنين الجدد، وبالتالي في خفض حالات سرطان الرئة، والوفيات الهائلة الناتجة عنه.