اقترب مجلس التعاون لدول الخليج العربية هذا العام من عامه الثلاثين. وما زالت أبصار مواطني دول المجلس تشخصُ إليه كملاذ آمن، ووعاء حاضن لطموحاتهم وتطلعاتهم التي أخذت تزداد يوماً بعد يوم. وإذا كان قادةُ دول المجلس قد أكدوا في غير ما مناسبة على أن ما تحقق من منجزات في المسيرة المشتركة لا يلبي طموحات المواطنين، فإن هنالك خللاً واضحاً في المسيرة لابد أن يُعالج بحكمة العقل ومسؤولية الموقف. إننا لا نختلف على أن بعض الإنجازات المتحققة قد لا تكون ملموسة للعيان، خصوصاً على الصعد الأمنية والعسكرية، كما كانت هنالك مبادرات لتحسين التعليم ورفع كفاءة الخدمات الصحية وتقريب القوانين سعياً لتوحيدها من أجل تحقيق المواطنة الخليجية! كما كانت هنالك أيضاً مقاربات اقتصادية نحو إقامة السوق الخليجية المشتركة واستكمال الحوار الخليجي الأوروبي -على رغم تعقيداته التي استمرت أكثر من 23 عاماً- حيث يشترط الجانب الأوروبي بعض الاشتراطات التي لا تتواءم مع النظم والقوانين المحلية في دول المجلس. وصحيح أيضاً أن هنالك مشروع الربط الكهربائي وحزام الاتصالات المؤمنة ودرع الجزيرة والتنسيق في مكافحة المخدرات والتهريب، والتنقل بالهوية بين (بعض) بلدان المجلس ولو أنه تأخر كثيراً! كما يوجد تنسيق في المواقف السياسية تجاه قضايا العالم الأخرى، وفي مجال الغاز والبترول، ولكن ما زال المواطن ينتظر المزيد، العملة الموحدة مثلاً! المواطنة وحق العمل! تمكين المرأة، الانضمام إلى بعض المواثيق الدولية أو التصديق عليها فيما يتعلق بالحريات العامة وحرية التعبير. إن أبناء المنطقة ينظرون إلى مجلس التعاون بإعجاب كبير لأنه صمدَ أمام تحديات هائلة، وما زال، ولكن على رغم هذا الإعجاب، لابد أيضاً أن تكون للمجلس رؤى جديدة توائم المرحلة المقبلة التي تعيشها شعوب الخليج. ولابد من مراجعات لكل الخطوات التي لم تحقق التقارب المشترك، واستبدالها بخطوات وإجراءات قابلة للتحقيق. فالتركيبة السكانية أصبحت "قنبلة" الخليج التي قد تنفجر في أية لحظة! ذلك أن التنمية الاقتصادية قد تجاهلت التنمية البشرية المحلية، وأن مدن الإسمنت قد ابتلعت خطط تنمية الإنسان ورفاهيته وأساسيات حياته. ولابد هنا من وضع تشريعات جديدة تعيد التوازن بين المواطنين والوافدين، ذلك أن مجتمعاً يعيش بين مجتمعات غير متجانسة، وتكون نسبته 10 في المئة فقط من عدد السكان، يمثل ذلك تهديداً للهوية المحلية ولمقدرات شعوب الخليج ولمستوى الخدمات التي درج المواطن الخليجي على الاستفادة منها. بل إن فرص العمل بدأت تتضاءل أمام المواطنين وهم في أغنى بقاع العالم. كما سنّت بعض دول الخليج سنناً غير مناسبة تمثلت في الإحالات المبكرة على التقاعد بالنسبة للمواطنين، بينما يبقى الوافدون يعملون حتى ما بعد السبعين، وفي ذلك مخالفة لقوانين العمل. هذا إضافة إلى أن التنمية الاقتصادية قد جذبت مئات الآلاف من الوافدين -وبعضهم لديهم كفاءات- للحلول محل المواطنين الذين يحتاجون لخطط التدريب. والقضية الثانية هي التحول المدني والمشاركة الشعبية وتحديث التشريعات التي تعترض طريق التحول المدني والمشاركة الشعبية. ذلك أن العالم قد تبدل، والرؤى قد نضجت فيما يتعلق بهذين الموضوعين المهمين. إن تحديث الدساتير وديمقراطية الترشح والانتخابات للمجالس النيابية من ملامح الدولة العصرية والتطور السياسي. ولذلك فإن المرحلة المقبلة تتطلب وعياً أكبر بهذين الموضوعين. والقضية الثالثة هي إصلاح التعليم! ونحن ندرك أن هذا الموضوع قد طُرح منذ نشأة المجلس عام 1981، وقامت لجان عدة بدراسته وتقديم توصياتها بشأنه، وأهدرت اجتماعات عديدة وملفات ضخمة في دراسته. ثم جاءت الهيئة الاستشارية وأشبعته دراسة واجتماعات. ولكن لم يحدث أي تطور في التعليم على المستوى الإقليمي، ذلك أن الدول قامت -فرادى- باستجلاب دور الخبرة الأجنبية -التي لم تكن تدرك حتميات الحياة في المنطقة وظروفها- وقدمت نماذج غير صالحة لمسيرة التعليم، ولم يتم التأكد من نجاح تلك النماذج، الأمر الذي يهدد مستقبل أبناء المنطقة ويقطع صلتهم بتاريخهم ومسؤولياتهم تجاه أوطانهم. ذلك أن التغريب بدا واضحاً في تلك النماذج. والقضية الرابعة هي تهديد الأمن في المنطقة وفراغ القوة، ودخول تركيا وإيران في الاستحواذ على مناطق النفوذ، أو رسم ملامح مصالح كلتيهما على حساب دول المنطقة. ونحن لا ننكر الدور التركي الجديد في مساندة القضية العربية (الصراع العربي الإسرائيلي) ولكن نحتاج إلى موقف خليجي موحد إزاء التحرك التركي والتحرك الإيراني. وندرك أن مجلس التعاون قد انشغل كثيراً في بحث هذه القضية وما زال. وقد كنا وسنبقى نطالب إيران بالتجاوب مع دعوات دولة الإمارات العربية المتحدة باللجوء إلى الحوار لحل قضية احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث والقضية الخامسة هي استثمارات دول المجلس وأسعار النفط والغاز ونصيب المستقبل من هذه الثروة بعد زوال النفط! ولئن كانت بعض التقارير المتفائلة قد قدرت أن النفط لن ينضب إلا بعد خمسين عاماً، فإن تخطيطاً عقلانيّاً وشفافاً ينبغي أن يوضع على الطاولة لحسن استغلال هذه الثروة، وضمان مستقبل الأبناء، وعدم التجائهم للكلأ والماء، أو الغوص المستحيل في ظل وجود اللؤلؤ الياباني المثير. إن لأبناء الأجيال القادمة حقاً في ثروة بلدانهم، ولابد من أن ننصف هؤلاء ونضمن مستقبلهم. والقضية السادسة هي الماء والأمن الغذائي، والكل يعلم أن دول المجلس هي من أكثر دول العالم تحلية لمياه البحر واستهلاكاً له. وأن التحلية ترهق ميزانيات الدول كثيراً في ظل عدم وجود مياه جوفية، كما أن خطط تحويل مياه المجاري (Recycling) ما زالت غير متوفرة للدرجة المطلوبة، والأمن الغذائي قضية مهمة، فهنالك شح في الزراعة في مناطق عديدة من العالم، ولا ندري ماذا سيفعل الخليجي لو توقف عنه "الرز" يوماً؟! هل سيأكل الكرواسون؟! وهنالك قضايا أخرى قد تكون مهمة مثل: العلاقات مع الولايات المتحدة! والإرهاب (ونعترف بدور المجلس في التنسيق لمكافحته سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي)، وتمكين المرأة، والتدريب، وسهولة تنقل المواطنين والبضائع بين دول المجلس، والأمن المعلوماتي وحرية التعبير. وبهذه المناسبة، وحيث إن مجلس التعاون سيودع معالي الأمين العام الأستاذ عبدالرحمن بن حمد العطية في قمة أبوظبي، بعد سنوات من عمله الدؤوب وإنجازاته على مستوى تحسين الأداء في داخل الأمانة أو في عمل اللجان المشتركة، ولا أدل على ذلك من أنه دخل الأمانة (الحصن الرجالي المنيع) دون أن تكون فيها امرأة واحدة، وها هو يخرج منها وقد دخلت أكثر من 12 خليجية في هذا المكان. وهذا دليل على اهتمامه بعملية التحديث وإعطاء المرأة دوراً في العمل الخليجي، ونحن نتمنى لمعاليه التوفيق والنجاح فيما سيُعهد إليه من مهام جديدة هو أهل لها. كما نتمنى للأمين العام الجديدة التوفيق في عمله.