رغم أنه لا أحد يستطيع فهم المرامي الأساسية التي تحرك مواقف كوريا الشمالية وتصرفاتها، فإن القراءة الراجحة لإعلانها الأخير عن استمرار تخصيب اليورانيوم بالاعتماد على أجهزة طرد مركزي جديدة، والإقدام يوم الثلاثاء الماضي على قصف جزيرة تابعة لكوريا الجنوبية أن بيونج يانج ترغب في تذكير العالم بأنها تستحق احتراماً أكبر في مفاوضات لها علاقة بصوغ مستقبلها، هذا الوضع يحتم على الولايات المتحدة الاختيار بين نهج المجاملة الدبلوماسية كما اعتادت عليها عندما تتأزم الأمور، أو العمل جدياً لتجنب مواجهة كارثية قد تنسف الاستقرار الهش في شرق آسيا. والحقيقة أن التعامل مع كوريا الشمالية شكل على الدوام تحدياً كبيراً للولايات المتحدة، فنحن نعرف أن ما يشبه الديانة السائدة في المجتمع الكوري السري والمتكتم للغاية هو الاعتماد على النفس وتفادي الهيمنة الأجنبية بشتى السبيل، وهو ما نجحت في تحقيقه إلى حد بعيد كما تدل على ذلك قدراتها التسليحية وإمكاناتها التكنولوجية التي تذهل المراقبين لتطورها الملفت رغم العقوبات والحصار الدولي المفروضين عليها، لكن استعراضها الأخير لعضلاتها العسكرية من خلال قصفها المدفعي لجزيرة "يونجبوينج" وإجراءها لتجارب متنوعة على الأسلحة يثير غضب العالم ويولد رغبة في التعامل الحازم معها، بل الرد بقسوة، لا سيما وأن العلاقات الدبلوماسية والعسكرية الوثيقة مع كوريا الجنوبية تجعلنا ملتزمين أمام سياسييها المتوجسين من اندلاع الصراع وزعزعة الاستقرار. وهذه ليست المرة الأولى التي تهدد فيها كوريا الشمالية بإطلاق الصراع المسلح، فقبل ثماني سنوات كتبتُ مقالاً عن الطريقة التي أقدم بها الرئيس الكوري الشمالي وقتها، كيم سونج إيل، عام 1994 على طرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإعلانه احتمال تحويل قضبان الوقود المستعمل إلى بلوتونيوم، بل إن "كيم" هدد بتدمير سيؤول إذا فُرضت على بلاده المزيد من العقوبات الاقتصادية، غير أن "كيم" الذي كان راغباً في قرارة نفسه الوصول إلى حل مرضٍ من خلال الدخول في حوار مباشر مع الولايات المتحدة، قام بمبادرة جيدة تمثلت في توجيه دعوة إليَّ للحضور إلى بيونج يانج لمناقشة القضايا العالقة، وهو ما استجبت له بالفعل بعد ترخيص من كلينتون، حيث رفعتُ تقريراً بالنتائج الإيجابية للمباحثات إلى الرئيس الأميركي، وقد أعقبت هذه المناقشات مع كوريا الشمالية مباحثات مباشرة في جنيف دارت بين المبعوث الأميركي الخاص ووفد من بيونج يانج انتهى بالوصول إلى "اتفاق إطار" أقنع كوريا الشمالية بوقف عملية تحويل الوقود النووي والسماح للمفتشين الدوليين باستئناف عملهم لثماني سنوات لاحقة. لكن الاتفاق سرعان مع انهار عندما اكتشفت واشنطن أدلة مهمة عن اكتساب بيونج يانج لليورانيوم المخصب في انتهاك سافر لاتفاق عام 1994، حينها ربط الرئيس جورج بوش، الذي كان قد أدرج مسبقاً كوريا الشمالية ضمن "محور الشر" وجعلها هدفاً محتملاً، بين المفاوضات المباشرة مع كوريا الشمالية وبين تخليها التام عن برنامجها النووي، فردت كوريا الشمالية مرة أخرى بطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية واستأنفت عملية التخصيب، بحيث يعتقد أنها حازت ما يكفي من البلوتونيوم لصنع سبعة أسلحة نووية. وعلى مدى السنوات اللاحقة جرت سلسلة من المفاوضات مع كوريا الشمالية شارك فيها بالإضافة إلى الولايات المتحدة كوريا الجنوبية واليابان والصين وروسيا والتي تعرف بالمباحثات "السداسية" أسفرت عام 2005 عن اتفاق آخر أكد المبادئ الأساسية لعام 1994، بحيث نص على جعل شبه الجزيرة الكورية منطقة خالية من السلاح النووي، وتعهدت الولايات المتحدة بعدم القيام بأعمال عدائية ضد كوريا الشمالية، هذا بالإضافة إلى السعي لبلوغ اتفاق سلام دائم يستبدل اتفاق وقف إطلاق النار بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة والصين الذي مازال سارياً منذ عام 1953، لكن مع الأسف لم يُحرَز أي تقدم في هذا السياق واستمرت كوريا الشمالية في تطوير ترسانتها النووية وإجراء تجارب على صواريخها المتوسطة وطويلة المدى، فضلاً عن مواصلة التحرشات العسكرية بكوريا الجنوبية، وفي كل ذلك ظلت كوريا الشمالية تصر على إجراء مباحثات مباشرة مع الولايات المتحدة، فبيونج يانج ترى أن القوات المسلحة لجارتها الجنوبية خاضعة للسيطرة الأميركية وأن سيؤول لم تكن قط جزءاً من اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1953، لكن واشنطن ومنذ إدارة أوباما امتنعت عن الجلوس مباشرة مع بيونج يانج، وفضلت انتهاج أسلوب المباحثات "السداسية"، لأنه في نظرها أي دخول في حوار مباشر مع كوريا الشمالية سوف يستثني الجارة الجنوبية. وفي تطور آخر للأحداث تلقيت دعوة في شهر يوليو الماضي للعودة إلى بيونج يانج لتأمين إطلاق سراح معتقل أميركي على أمل أن أبقى طويلا لإجراء مباحثات عميقة مع مسؤولي كوريا الشمالية، أعادوا التأكيد فيها على التزامهم بالقضايا نفسها التي أثيرت في اتفاق 1994، وهي إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي والوصول إلى اتفاق سلام شامل على أساس ما تم التوصل إليه في المباحثات "السداسية" خلال عام 2005، ولأني لا أملك صلاحيات التفاوض أو القيام بوساطة من أي نوع فقد اكتفيت بنقل الرسالة إلى واشنطن، تلك الرسالة التي أيدتها الصين، ومنذ ذلك الوقت وكوريا الشمالية تبعث برسائل مشابهة تؤكد كلها على رغبتها في التفاوض المباشر مع أميركا لإنهاء حالة الاحتقان في المنطقة مع إبداء استعدادها للتخلي عن برنامجها النووي ورجوع المفتشين الدوليين، بل والتوصل إلى اتفاق سلام دائم بين الكوريتين، لذا أعتقد بأنه حان الوقت كي ترد الولايات المتحدة على هذا العرض الكوري الشمالي المستمر، لأن البديل سيكون مواصلة بيونج يانج لتصرفات تراها ضرورية للدفاع عن نفسها إزاء خوفها الأكبر المتمثل في تعرضها لهجوم عسكري تدعمه أميركا والسعي لتغيير نظامها السياسي. جيمي كارتر رئيس سابق للولايات المتحدة الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبورج نيوز سيرفس"