يشترك في العدد الأخير لمجلة "فورين أفيرز" بعض كبار صناع القرار وكبار المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين، في نقاش قضايا ما أسمته المجلة "العالم الآتي" وتحددت العناوين بما يلي: الأديان العائدة، التكنولوجيات المتحولة، الانفجارات الديموغرافية، نقص الطعام، تناقص الطاقة وتوزع اقتصاداتها على عدد كبير من الدول الصاعدة مع دور متزايد للفاعلين غير الدول (الشركات والمنظمات غير الحكومية وقوى الإرهاب... إلخ). والملاحظ في المقالات أنّها لا تشير إلى قضايا محددة بقدر ما تتحدث عن البيئة السياسية العالمية الجديدة، وعن مبادئ العمل أكثر منها حول ملفات وقضايا بعينها (مثل إيران أو روسيا أو غيرها). وزيرة الخارجية الأميركية تركز على "القيادة عبر القوة المدنية"، وتتفق مع وزير الدفاع "جيتس"، على أهمية رفع سوية العمل الدبلوماسي والتنمية بجانب القوة العسكرية. وعلى رغم أنّ كلينتون تتحدث عن دعم "التنمية طويلة المدى والحوكمة الديمقراطية"، فإنّ هذا افتراق عن خطاب نشر الديمقراطية للإدارة السابقة، والتركيز هنا على استقرار وبناء الدول، وهو نوع من العودة للنظرية الواقعية في العلاقات الدولية مع قدر أعلى من التدخليّة، أو هو نوع مما سماه فوكوياما قبل سنوات باسم "الواقعية الويلسونية"، نسبة إلى الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ويلسون (1856- 1924)، الذي يعتبر رائد المدرسة الليبرالية في العلاقات الدولية، وقد حاول المحافظون الجدد الادّعاء بأنهم يمثلون وجهة نظره، في نشر الديمقراطية. ولكنهم حرفوا مذهب ويلسون، فهو لم يقل بنشر الديمقراطية بالقوة العسكرية، ولذلك سمي المحافظون الجدد باسم "المثاليين" في العلاقات الدولية، والمثالية هنا دلالة على التطرف. وفي المقابل دعا مفكرون من أمثال فوكوياما إلى ويلسونية واقعية؛ تأخذ من ويلسون اهتمامه بما يحدث داخل الدول الأخرى وبنوع النظام فيها، (وهو أمر لا تهتم به عادة المدرسة الواقعية، التي من أساتذتها هنري كيسنجر)، والأخذ من الواقعية عدم الانجرار إلى حروب وتدخلات لتغيير النظام في بلد ما (كما حدث زمن جورج بوش). وبغض النظر عن بوصلة السياسة الخارجية الأميركية حاليّاً، ربما يكون من المجدي للدول العربية أن تفكر في ذات الاتجاه. فإذا كانت الدول العربية عاشت حتى الثمانينيات تقريباً مشكلة تدخل الدول الغربية في شؤون بعضها، ومحاولات بعض الأنظمة إسقاط أخرى لصالح حكومات تتبعها، وخصوصاً زمن الحكومات "التقدمية الثورية"، ثم جاءت مرحلة عدم التدخل، وحتى عدم الاهتمام بما يجري في الدول الأخرى، فإنّ مرحلة جديدة ربما ينبغي أن تبدأ. وفي حالة دول مثل العراق ولبنان تتدخل دول عربية لدعم طرف مقابل آخر، أو للتوسط لمنع الانفجار هناك، ولكن ليس هذا التدخل المقصود. ولو أردنا أن نضع أجندة لمجلة عربية تدرس "العالم العربي الآتي"، على غرار ما فعلت "فورين أفيرز"، يمكن أن نقتبس ذات العناوين، مع التخصيص أو التغيير في بعضها، فمثلا يمكن أن ندرس: عودة الطوائف والطائفية، ومواجهتها بتكريس مفهوم المواطنة، ودراسة مفهوم "الدولة الفاشلة"، ففشل الدول في العراق والصومال واليمن والسودان يرتد على أمن دول عربية مستقرة ومسيرتها التنموية ناجحة. والمساعدات للدول العربية الأخرى ينبغي أن تخرج من دائرة الإغاثة إلى التنمية. وينبغي أن تكون لدى الدول المستقرة المزدهرة مراصد للقضايا الطائفية، والغذائية، والديموغرافية، والسياسية... إلخ. لأننا نعيش، وأكثر من أي وقت سبق، عصر انتشار المشكلات عبر الحدود.