رغم مظاهر التخمة التي تجتاح المجتمع الأميركي والإفراط في الأكل الذي حول الأجساد إلى كتل لحمية منتفخة بالكاد تقوى على التحرك، وتكلف السلطات الصحية أموالاً كبيرة للتعامل معها... تطفو على السطح مشكلة أخرى مختلفة تتمثل في الجوع الذي تعانيه أعداد متزايدة من الأطفال في الولايات المتحدة! والمفارقة أنه بالنسبة لبلد يعشق الأكل ويتفنن في صنعه، يبقى من غير المقبول أخلاقياً السماح بوجود الأطفال الجوعى بيننا. ومناسبة هذا الكلام التقرير الصادر عن وزارة الزراعة الأميركية والذي يرصد الوضع الغذائي في كل ولاية على حدة، مشيراً إلى "انعدام الأمن الغذائي" في بعض الولايات، وهي العبارة التي تعني نسبة الجوع بين المواطنين الأميركيين، أو احتمال التعرض له في فترة من الفترات. ويرسم التقرير صورة قاتمة بكل المقاييس، فالمقصود عندما نتحدث عن الجوع في الولايات المتحدة، ليس ما يشعر به أغلبنا بين الوجبات الغذائية الممتدة، بل المقصود به المخاوف التي تنتاب العائلات من أنها لن تستطيع توفير الغذاء لأطفالها في ذلك اليوم، أو أنها إذا وفرته فلن يكون بالكميات الكافية التي تضمن تغذية متوازنة للأطفال تقيهم الأمراض وتساعدهم على النمو السليم. والحقيقة أن هذا النموذج الأخير من الجوع هو ما ينطبق على 50 مليون أميركي بمن فيهم 17 مليون طفل. ويشير التقرير أيضاً إلى أن انعدام الأمن الغذائي يطال 15 في المئة من الأسر الأميركية. وإذا كانت هذه النسبة قد ظلت على حالها دون تغيير، رغم الأزمة الاقتصادية الحالية والركود الذي تشهده مختلف النشاطات الاقتصادية في أميركا، فإن النسبة مع ذلك تظل مرتفعة بالنسبة لبلد مثل أميركا، لاسيما وأنها الأعلى منذ أن بدأت وزارة الزراعة تقيس الاحتياجات الغذائية للأميركيين في عام 1995. فكيف يحدث ذلك إذن في الولايات المتحدة؟ وكيف لبلد حباه الله بالخيرات الوفيرة أن يعاني فيه طفل بين كل أربعة أطفال من احتمال الشعور بالجوع الممتد؟ الحقيقة أنه بالنظر إلى واقع التغذية في أميركا، فإن الكثير من الأميركيين يثيرون الشفقة، فثلث السكان البالغين يعانون من السمنة، كما أن المراكز الاستشفائية تغص بالباحثين عن طرق لخفض أوزانهم والعلاج من مضاعفات الوزن الزائد، هذا بالإضافة إلى الاهتمام المرضي بقوام الجسم وصورته التي تدفع العديدين إلى انتهاج حميات غذائية قاسية، أو إجراء عمليات غير مأمونة العواقب لتخفيض الوزن، دون أن ننسى ارتفاع نسبة الاشتراكات في المجلات والدوريات المهتمة بالطعام وطريقة تحضيره... ومع ذلك تظل مشكلة انعدام الأمن الغذائي بالنسبة للأطفال حاضرة بقوة في المجتمع، وإن كان القليل فقط من المسؤولين ينتبه إليها. ولن يفيد لتصويب هذا الوضع المختل والمخزي في نفس الوقت توزيع الطعام على الناس خلال فترات متباعدة في السنة والتعامل مع الموضوع وكأنه جزء من عمل خيري يتسابق البعض للانخراط فيه. فالتقرير الصادر عن وزارة الزراعة الأميركية بعنوان "الأمن الغذائي للأسر الأميركية خلال عام 2009"، يعرف غياب الأمن الغذائي بأنه "التوفر المحدود أو غير المضمون لطعام كاف يحتوي على قيمة غذائية مناسبة، أو عدم توفر الغذاء ضمن بيئة اجتماعية تقبل ذلك ولا ترى فيه ضرراً". ولو سألنا مدرساً في إحدى المدارس عما تعنيه معاناة الأطفال من الجوع، فقد يجيب بأنه يعني اضطرارهم إلى السرقة لتهدئة أصوات بطونهم الفارغة. والحال أننا عندما نتحدث عن جوع الأطفال فلا نقصد تلك الممارسات الصغيرة التي يلجأ إليها الصغار مثل سرقة قضيب من الشكولاته من أحد الأسواق، بل نعني الجوع المهيكل الناتج عن عجز الآباء وعدم اهتمام المربين. ولرصد هذه المعضلة قام التقرير باستجواب مجموعة من الأسر بطرح عينة من الأسئلة الدالة؛ مثل: "هل اضطر أحد الأطفال خلال 12 شهراً الماضية إلى عدم الأكل ليوم كامل لعدم توفر ما يكفي من مال لشراء الطعام؟"، أو إلى أي حد يتفق المستجوبون مع عبارات مثل: "نخشى من أن ينفد الطعام قبل أن نحصل على المال لشراء آخر". فما العمل إذن لتغيير الوضع وضمان حصول الأطفال على كميات مناسبة من الطعام؟ أحد الحلول في نظري الوصول إلى الأطفال من خلال المدارس العمومية، وفي هذا الإطار يستطيع الكونجرس القيام بدوره من خلال تمرير قانون حماية الأطفال من الجوع، والذي سيتيح الإمكانات الضرورية للمدارس لتوفير وجبات غذائية للأطفال، بحيث يتم تجاوز العراقيل البيروقراطية المألوفة لإغناء مطاعم المدارس بالوجبات الغذائية الصحية التي تحترم المعايير السليمة؛ كأن تعمل على تقليص كميات السكر والملح في الطعام، ومن شأن هذا القانون تقويم بعض الاختلالات الواردة في الإحصاءات التي تشير أن 55 في المئة من الأطفال الذين يستحقون وجبات إفطار مجانية، أو منخفضة التكلفة، لا يحصلون عليها. أما بالنسبة للمخاوف التي يبديها البعض من هيمنة دولة الرعاية وخلق ثقافة الاتكالية في المجتمع، فهي لا تنطبق على الأطفال الذين يحتاجون إلى كميات كافية من الغذاء حتى يستطيع المجتمع في المستقبل التعويل عليهم لدفع الضرائب. كما أنه خلافاً للبرامج الاجتماعية الأخرى التي تلبي احتياجات من طبيعة مختلفة، تبقى مساعدة الأطفال أمراً مبدئياً وأساسياً لأنها تلبي الاحتياجات الأولية الضرورية للحياة مثل الطعام. ماري سانشيز كاتبة ومعلقة أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"