يبدو أن لدى الإنسان العربي المعاصر مشكلة مع لغته العربية، فالسنوات الأخيرة كشفت ابتعاده عن لغته الأم وإقباله على اللغات الأخرى وعلى رأسها اللغة الإنجليزية. والسؤال هنا: هل هذا الوضع طبيعي، وهل يمثل حالة خاصة يعيشها الإنسان العربي، أم أنها ظاهرة عالمية؟ من يستعرض تاريخ اللغة العربية خلال القرون الأخيرة، وفي العقود الماضية بالتحديد، يلاحظ أنها لم تطور نفسها وفي نفس الوقت فإنها لاقت التجاهل وعدم الاهتمام، بعكس لغات العالم الأخرى وعلى رأسها الإنجليزية التي لاقت اهتماماً كبيراً واستخدمت كل الأدوات المتاحة كي تصل إلى أكبر شريحة من البشر على الكرة الأرضية، لذا فإنها أصبحت اللغة العالمية الأولى ولغة الأعمال ولغة التكنولوجيا ولغة العلوم، بل ولغة التخاطب اليومي والتعبير عن المشاعر. فاللغة العربية تعاني من أوجه قصور عدة؛ فاللهجات المحلية تنافسها، واللغات الأجنبية تنتشر يومياً على حسابها، كما أن المجتمعات الناطقة بها تعاني من انتشار الأمية بين 60 بالمائة من أفرادها... بالإضافة إلى الظروف التقنية الصعبة التي تعاني منها، فنظامها النحوي صعب ومعقد ولا توجد معاجم حديثة ومتطورة تخدمها، وقد صارت بعيدة عن لغة التخاطب التي تتناسب والعصر الذي نعيش فيه، كما أنها بعيدة عن لغة المال والأعمال والتكنولوجيا، بالإضافة إلى عدم العناية بها في المناهج الدراسية وتقديمها للطالب بطريقة جافة وصعبة في حال مقارنتها بالطريقة التي تُدرّس بها اللغة الإنجليزية. ورغم كل ذلك فإنني أعتقد أن التشاؤم من تراجع اللغة العربية مبالغ فيه... فاللغات كلها تتعرض لهجوم قوي من اللغة الإنجليزية، إلا أن وضع اللغة العربية أقوى وإن كانت تحتاج إلى كثير من العمل كي تحافظ على قوة بقائها. كما أن اللغة العربية لم تستخدم الأدوات الكافية لدعم نفسها بين أبنائها فضلاً عن نشرها بين الآخرين، فما تزال تعتمد الأساليب التقليدية في تعليم غير العرب، وما تزال تستخدم الأنماط القديمة في تدريس أبنائها الذين أصبحوا يعتبرون تعلمها عبئاً لا يريدون تحمله، والسبب أن تعليم اللغة لا يحمل أي نوع من التشويق. كما أن القائمين عليها لا يؤمنون بأن هناك أساليب جديدة يفترض اعتمادها في تعليم اللغة ويرون أن من يريد أن يتعلم هذه اللغة أو يدرسها فعليه أن يتلقاها كما هي. لا يجب أن ننسى ونحن نتناول هذه القضية الحساسة أمراً في غاية الأهمية وهو أن العقدين الماضيين شهدا تطورات عالمية في مجال الاتصالات ونقل المعلومات والسماوات المفتوحة وبالتالي فالأجيال الجديدة فتحت أعينها على عالم يختلف عن العالم الذي فتحنا عليه أعيننا، خصوصاً أن التكنولوجيا لا تتكلم العربية وإنما الإنجليزية فقط. هناك أمر آخر لا يعيره العرب اهتماماً كبيراً، وهو أن اللغات العالمية الأخرى تم الاستثمار فيها مالياً بشكل كبير، سواء اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، ومؤخراً الصينية وغيرها. فهناك عشرات ملايين الدولارات تصرف سنوياً من أجل تبسيط تعليم هذه اللغات ومن أجل نشرها بشكل أوسع. ونلاحظ أن الأسواق مليئة بالأدوات التي تعلم تلك اللغات بعكس اللغة العربية! إذن المشكلة ليست في الأجيال الجديدة التي غالباً ما يستمتع البعض في إلقاء اللوم عليها واتهامها بالتخلي عن الثوابت الأصيلة... فاللغة العربية حوصرت دون أن تتطور ولم يتم الاستثمار فيها بالشكل المطلوب فأدى ذلك إلى تراجعها. وفي ظل هذا الإحباط لما تعانيه اللغة العربية من تراجع، هناك مؤشرات مطمئنة تستحق الاهتمام، فمثلاً هي إحدى اللغات الست الرسمية في أكبر محفل دولي (منظمة الأمم المتحدة)، وهي تهيمن على جزء من الإعلام العربي، ولها حضور لا بأس به في النظام التعليمي، والإداري والتنظيمي. كما هي ضمن اللغات الإحدى عشرة الأكثر انتشاراً في العالم (حسب ترتيب عدد المتكلمين بها: الصينية، الإنجليزية، الإسبانية، العربية، الهندية، الروسية، البرتغالية، البنغالية، الألمانية، اليابانية، الفرنسية)، بل تحتل الموقع الثالث في لغات العالم، من حيث عدد الدول التي تقرها لغة رسمية، والموقع السادس من حيث عدد المتكلمين بها، وهي من بين اللغات الست التي يعرف الناطقون بها تزايداً ديموغرافياً أكثر من غيرها. كما أنها واحدة من ثماني لغات تكاد تقتسم العالم فيما بينها، وتحتفظ كل منها لنفسها بحدود جغرافية واضحة: الماندرين في آسيا الوسطى، الإسبانية والبرتغالية في أميركا الجنوبية، الإنجليزية في أميركا الشمالية، العربية في شمال إفريقيا والشرق الأدنى، الهندية والبنغالية في أغلب القارة الهندية، الروسية في أوروبا الشرقية. يقول جوان دانييل، وهو أحد المتخصصين في اللغات، معتمداً على رأي خبراء في مجاله، إن هناك ثلاث لغات ستقتسم العالم بعد أقل من مائتي سنة، أي في عام 2200 ميلادية، هي الإنجليزية والصينية والعربية. باحثون آخرون يرون أن من 3000 إلى 4000 لغة موجودة حالياً ستختفي خلال القرن الحالي، ويرون أن 60 في المائة من اللغات في أوروبا ستختفي أي 73 لغة من أصل 123 في القارة الأوروبية في طريقها إلى الاختفاء رغم كل الإجراءات التي تتخذ للحفاظ عليها. وفي دراسة أخرى تشرف عليها اليونسكو تكشف أن 5000 لغة من أصل 6703 ستختفي خلال قرن. هذه الأرقام تبدو مفزعة للكثير من مستخدمي اللغات، لكنها تبدو واقعية؛ فانهيار بعض اللغات وتراجع أخرى أمر يحدث أمام الجميع. وأخيراً، تبقى اللغة والدين والتاريخ من القلاع الرئيسية لأية أمة، لأن ضياعها ضياع للهوية... ولو لم تعط المدرسة الطلبة الجرعة الكافية من اللغة العربية فعلى أوليا الأمور مسؤولية تعليم أبنائهم اللغة، لأن عدم إجادة اللغة الأم قد يؤدي إلى مشكلات كبيرة لدى الإنسان في المستقبل وقد يخلق لديه عقداً نفسية واجتماعية وثقافية عندما يكبر. فليس عيباً أن لا يعرف الإنسان لغة أخرى حتى وإن كانت الإنجليزية، لكن أن لا يعرف لغته، قراءة وكتابة، فهذه مشكلة حقيقية!