في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تقف على الهامش متفرجة على ما يجري على أمل أن الزمن والظروف كفيلان لوحدهما بإرغام كوريا الشمالية على الاستجابة للمطالب الدولية، والتخلي عن برنامجها النووي كانت هذه الأخيرة تمضي قدماً في تنفيذ خططها الخاصة بتطوير برنامجها النووي. وفي هذه السياق جاءت ردود الفعل الدولية متشككة تجاه الخطط التي أعلنت عنها بيونج يانج خلال السنة الماضية ببناء مفاعل نووي يعتمد على الماء الخفيف وإتقان عملية التخصيب لتزويده بالوقود الضروري لتشغيله، فقبل أقل من أسبوعين عندما كنا في زيارة إلى المركز النووي في "يونجبيون" على هامش زيارتنا إلى كوريا الشمالية التي استمرت أربعة أيام، رأينا كيف شرعت البلاد في بناء مفاعل نووي يعمل بالماء الخفيف يستطيع توليد ما بين 25 و30 ميجاوات من الطاقة الكهربائية. والأكثر من ذلك ذهبنا صحبة المسؤولين الكوريين لتفقد محطة نووية أخرى لتخصيب اليورانيوم تعمل بأجهزة الطرد المركزي، وقد بدت المحطة التي تتوفر على أكثر من ألفي جهاز طرد مركزي مكتملة البناء وتحتوي على أجهزة متطورة وحديثة. ومع أن الكوريين امتنعوا عن الدخول في التفاصيل ولم يشرحوا لنا الطريقة التي حصلوا بها على تلك الأجهزة المتطورة، إلا أنهم في الوقت نفسه أكدوا لنا أن أجهزة الطرد المستخدمة ليست من الطراز القديم، بل تنتمي إلى الجيل الجديد المستخدم في الدول المتقدمة. وقد أضافوا أن المحطة مكتملة وتعمل بقدرتها الاعتيادية رغم أنه لم يتسنَ لنا التأكد من صحة هذا الكلام، ويُفترض بالمحطة التي اطلعنا عليها تخصيب اليورانيوم الذي سيحتاجه المفاعل النووي المعتمد على الماء الخفيف، وعندما سألنا المسؤولين عن الحاجة إلى المفاعل أصلاً في حين كان بالإمكان الحصول على الماء الخفيف من الخارج، أوضح لنا المسؤولون أن محاولاتهم العديدة للحصول على المفاعل من الخارج باءت بالفشل، فلم يبق أمامهم سوى بنائه بأنفسهم. وبالطبع من شأن هذا التسارع في تطوير البرنامج النووي الكوري أن يغذي الشكوك لدى المراقبين الغربيين الذين سيقفزون إلى التحذير من فشل المفاوضات مع كوريا الشمالية وعدم جدواها في إقناع مسؤوليها بالتخلي عن مساعيهم، كما سيؤكدون أنه فقط بالاستمرار في ممارسة الضغط الدولي على بيونج يانج يمكن إجبارها على الاستجابة للمطالب الدولية في هذا السياق، لكن المفارقة أن هذه المقولات نفسها، هي التي وضعت السياسة الأميركية في مفترق طرق، وجعلتها في حيرة من أمرها، فالجدال حول من يتحمل المسؤولية في تعثر المفاوضات السياسية الأميركية، أم المواقف الكورية الشمالية يمكنه الانتظار، لكن ما يستدعي التدخل العاجل هو إجراء مراجعة شاملة لست عشرة سنة من الانخراط مع كوريا الشمالية لتحليل الحقائق الموضوعية والخروج بخلاصات وتقييمات موضوعية، لا سيما وأن مشكلة البرنامج النووي الكوري تستعصي على الحل كلما مر الوقت، فقد اعتقدت واشنطن لفترة طويلة أن سياسة "الانتظار الاستراتيجي"، ومواصلة الضغوط الدولية المتمثلة في العقوبات الأممية على كوريا الشمالية قادرة على إرغام كيم يونج إيل على الرضوخ للمطالب الدولية وتفكيك برنامجه النووي، وهي مقاربة حذر منها المنتقدون الذين اعتبروا أنه من دون تدخل الصين للضغط على بيونج يانج، فإنه لن يكتب النجاح لجهود محاصرة كيم يونج إيل، والحال أن بكين فضلت على العكس من ذلك تطوير علاقتها الثنائية مع كوريا الشمالية لتصبح في الآونة الأخيرة أكثر قوة مما كانت عليه في السابق. وفيما يصعب القول بأن الشكوك الراسخة في العلاقة بين كوريا الشمالية والصين قد تبددت تماماً، إلا أن المصالح المشتركة بين البلدين هي من التداخل إلى درجة لن يوفر فيها المسؤولون أي جهد لتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني بينهما. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى الزيارتين اللتين قام بهما كيم يونج إلى الصين خلال العام الجاري وتقديمه لنجله الأصغر وخليفته المتوقع إلى المسؤولين الصينيين، وبالنظر إلى الحرص الذي تبديه بكين على الاستقرار في كوريا الشمالية خلال فترة انتقال السلطة فقد عبرت لبيونج يانج عن استعدادها دعم حكم كيم يونج إيل على المدى الطويل، وهو ما يضرب أي أمل أميركي معقود على سقوط النظام من تلقاء نفسه ويرهن المصالح الأميركية بهذه المسألة، وليس من الحكمة في هذا الصدد أن تنتهج الولايات المتحدة لحماية مصالحها في المنطقة ما تقوم به اليابان وكوريا الجنوبية، بل يتعين انتهاج أسلوب مبتكر في التعامل مع كوريا الشمالية. ولعل الجزء الأكبر من المشكلة التي تعيق فهم الأميركيين لبيونج يانج وسياستها في المنطقة هي التعامل معها انطلاقاً من التجارب الماضية وكأنها معضلة غير قابلة للحل، كما أن الأميركيين اختلقوا تصوراً مغلوطاً حول كوريا الشمالية مفاده أنه يستحيل التفاوض معها والوصول إلى نتائج إيجابية، رغم أن التاريخ يثبت أن دولًا أخرى كانت في نفس الموقف مثل فيتنام والصين لتصبح اليوم في وئام مع أميركا، وبدلًا من الدخول في جدالات عقيمة لا طائل منها حول ما إذا كانت كوريا الشمالية ستتغير على شاكلة الصين، أم أن نظامها سينهار، يتعين على الأميركيين التخلص من تصوراتهم النمطية لأنهم أكثر عزلة من الكوريين الشماليين، وفي هذا الإطار يتعين أيضا على الولايات المتحدة الرجوع إلى المربع الأول بالتعامل الواقعي مع كوريا الشمالية وقبولها كدولة عادية في المنطقة ذات سيادة ومصالح تسعى إلى حمايتها. ------- روبرت كارلين باحث بمركز التعاون والأمن الدوليين بجامعة ستانفورد الأميركية جون لويس أستاذ السياسة الصينية بجامعة ستانفورد ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبورج نيوز سيرفس"