بالنسبة لمؤرخ أميركي يشتغل على الأبحاث المتعلقة بالتوتاليتارية والمذابح الجماعية في التاريخ، لم يكن هناك في انتخابات التجديد النصفي ما هو أكثر بعثاً على اليأس والإحباط، من تلك المقارنات التي أجراها البعض بين أوباما وهتلر؛ وبينه وبين ستالين.ذلك لأننا عندما نخطئ في تفسير التاريخ وفي المقارنة بين شخوصه، فإننا نلحق ظلماً بيناً بأنفسنا. فمقارنة الرئيس الأميركي بالطاغية السوفييتي جوزيف ستالين، تنم عن سوء فهم فادح لتاريخ الشيوعية. فمن المعروف أن الأميركيين يؤمنون بأن الإصلاح الاجتماعي يقود تدريجياً - على نحو ما - إلى الشيوعية في نهاية المطاف؛ في حين أن التاريخ يحكي لنا قصة مختلفة تماماً. فالشيوعية لم تبزغ أبداً - لا في الاتحاد السوفييتي، ولا الصين، ولا كمبوديا، ولا كوبا، ولا فيتنام، ولا كوريا الشمالية - كنتيجة محتمة لإصلاحات تراكمية، وإنما كانت تتم في الغالبية العظمى من الحالات عبر ثورات دموية، تقوم بها أقلية متعصبة، سواء أثناء حروب تخوضها الدول التي ظهرت فيها، أو عقب تلك الحروب بوقت قصير. وبمجرد قلب النظام القائم، والاستيلاء على مقاليد السلطة، كان الثوريون الملتزمون يسعون إلى تغيير بلاد زراعية مثل روسيا أو الصين، على سبيل المثال لا الحصر، إلى دول صناعية عصرية عن طريق قمع الفلاحين وملاك الأراضي، وتطبيق آليات الرعب السياسي. وتاريخ دولة الرفاه - في حقيقة الأمر - ليس سوى جزء من تاريخ النضال ضد الشيوعية. فبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بوقت قصير، عمد الأوروبيون والأميركيون العقلاء، إلى دعم الإصلاحات الاجتماعية، لسبب محدد وهو الحيلولة دون تمدد النفوذ السوفييتي. فعقب انتهاء تلك الحرب، انتقلت الشيوعية إلى أوروبا الشرقية على ظهور دبابات الجيش الأحمر؛ وكان السؤال الملح الذي واجه أوروبا وأميركا في ذلك الوقت هو: كيف يمكن الحيلولة دون امتداد تلك الشيوعية إلى الدول التي تحررت بفضل القوى الغربية؟ وفي أوروبا الغربية ذاتها التي كانت ممزقة بفعل الحرب، اتفق السياسيون "اليساريون" و"اليمينيون" على أن مد نطاق الخدمات التي تقدمها الدولة، هو الوسيلة المثلى لتثبيت أركان الديمقراطية، والحيلولة دون وقوع الثورة التي تمهد للشيوعية. ولقيت هذه السياسات دعماً وتمكيناً، بعيد النظر في الحقيقة، من جانب أميركا التي قدمت لتلك الدول مشروع مارشال العملاق للمساعدة الاقتصادية. وفهم رجال الدولة الأميركيون في ذلك الوقت، أن أفضل وسيلة يمكن اتباعها لمنع السياسات الراديكالية، هو خلق مجتمعات راضية عن أحوالها مطمئنة لمستقبلها. ونجح نظام دولة الرفاه في ذلك نجاحاً باهراً، لدرجة أن معظم الدول التي استفادت من مشروع "مارشال"، أصبحت أكثر ازدهاراً في الوقت الراهن من الولايات المتحدة ذاتها. وفي أوروبا الغربية تمكنت الديمقراطية الاجتماعية من إيقاف ستالين. ولكن ماذا عن أوروبا الشرقية التي كان أنصار ستالين يحكمونها بالقوة؟ الحق أن دول أوروبا الشرقية قد وفرت لمواطنيها الرعاية الصحية العامة، وأنظمة التقاعد والمعاشات... وما إلى ذلك من خدمات اجتماعية. ولكن تلك الدول عندما حررت نفسها من أغلال الشيوعية في العام 1989، لم تتخلص من مؤسسات النفع العام، وإنما حافظت عليها وحرصت على تمويل الخدمات العامة، عن طريق عوائد الضرائب المستمدة من الأعمال الجديدة التي تم تدشينها بعد تبني نظام اقتصاد السوق في تلك البلدان. لذلك، فلو أن أحداً قال لمواطن من مواطني دول أوروبا الشرقية إن نظام السكك الحديدية العمومي لديهم، هو خطوة نحو الستالينية، فسوف يعتقدون على الفور أنه معتوه. أما المقارنة بين أوباما وهتلر، فهي - حتى وإن جازت - شيء يصعب تصوره أو تصديقه.فالأساس المنطقي الذي قام عليه النظام النازي هو العنصرية. فهتلر كان رجلاً عنصرياً يقسم الألمان إلى قسمين: ألمان حقيقيون وأصلاء، وألمان غير حقيقيين يشملون: اليهود، والمعوقين، والعاطلين عن العمل لمدد طويلة، ومثليي الجنس، والغجر، وثنائيي العرق. كما كان يعتقد بالإضافة لذلك أن السياسيين "الديمقراطيين" من اليسار يجب أن يوضعوا في معسكرات اعتقال. أما العالم الخارجي فكان ينظر إليه من منظور التراتبية العنصرية أي من خلال تقسيمه لدرجات مثل درجات السلم يأتي الألمان في الدرجة العليا منها، بينما تأتي بقية الشعوب في باقي الدرجات. وكان يعتبر اليهود والسلاف على وجه الخصوص أعداء يجب العمل على إفنائهم. ومن هذا المنظور بدأ هتلر أسوأ حرب في التاريخ للحصول على إمبراطورية لهؤلاء الذين كان يعتبر أنهم صفوة الأجناس، وقتل الملايين من اليهود والأوروبيين خلالها. أما أوباما فهو، على النقيض تماماً، ينتمي لأقلية عرقية. ولو كان قد ولد في ألمانيا النازية لأم ألمانية وأب أفريقي لكان هتلر قد أمر ببتر أحد أعضائه، ولكن انتخابه كرئيس للولايات المتحدة يمثل أكبر دحض على الإطلاق للأيديولوجية النازية. ليس هناك أدنى شك بالطبع، أن كلاً من هتلر وستالين كانا يقودان حزبين مناوئين للديمقراطية، اكتسبا شرعيتهما من خلال الأيديولوجية، والدعاية الصاخبة، والقوة الباطشة، لا من خلال الانتخابات الحرة. وفي الحالتين النازية والستالينية على حد سواء، احتاج الصعود للسلطة إلى استخدام العنف، كما احتاج بقاء النظام في السلطة بعد ذلك إلى المزيد من العنف. من ذلك كله نستطيع القول إن قيام الأميركيين بتشبيه رئيسهم الذي انتخب من خلال انتخابات حرة سلمية بسفاحين أيديولوجيين يمثل في رأيي إهمالًا جسيماً لبعض من أهم دروس التاريخ. فمن العار في جميع الأحوال مقارنة رئيس يقترح إدخال إصلاحات اجتماعية معتدلة للغاية، برجلين قادا نظامين قتلا ملايين البشر. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة"تريبيون ميديا سيرفس"