ظهرت مؤخراً مزايا نظريات السياسي الأميركي جيمس روزنو عندما حذر في بداية تسعينيات القرن الماضي في كتابه "اضطراب في العالم السياسي"، من محاولة استقراء العالم باعتباره نظاماً قابلًا لتعريف واحد ومقسماً بطريقة محكمة وثابتة. فالساحة الدولية تطبعها، حسب روزنو، تناقضات كبيرة تتغير بسرعة وبطريقة أعمق من السابق، ولا يمكن أن تستقر بعد على حال لها مدى متوقع من الديمومة: تكتل هنا وتشتت هناك، عودة الوازع الديني في بعض المواطن (كالولايات المتحدة الأميركية)، وتراجعه في مواطن أخرى (أوروبا مثلا)، ظهور ديمقراطيات جديدة موازاة مع تشدد سلطويات أخرى، بروز قوى اقتصادية جديدة وحدوث أزمات لم يكن ليحسب لها حسبان في الماضي... ولذا فالحيرة تصيب الكثير من المختصين في العلاقات الدولية عند قراءتهم للساحة الدولية لسبب بسيط هو أن الكثير منهم ينطلق في توقعاته من مرحلة هي في جوهرها انتقالية، متحولة، ويحاول من خلالها أن يتوقع نظاماً دوليّاً له قدر من الثبات. وفي هذا المضمار، حاولت المفكرة والمختصة الفرنسية الشهيرة كاترين دي فندن، في كتابها الأخير "العولمة الإنسانية"، استجلاء أحد العناصر الأكثر وضوحاً لهذا التحول الذي أحدث خللاً واضحاً في تركيبة بعض الدول، ألا وهو الهجرة. فالعالم يعرف اليوم أكثر من مائتي مليون مهاجر (بعدما كانت هذه النسبة لا تتعدى 75 مليوناً سنة 1965)، وأصبحت أوروبا يستوطنها أكثر من 34 في المئة من المهاجرين العالميين متبوعة بآسيا (28 في المئة)، ثم أميركا الشمالية (23 في المئة)، ثم إفريقيا (9 في المئة)، وأخيرا أميركا اللاتينية (4 في المئة)، كما أن هناك ثمانية وعشرين بلداً فقط تستقبل أكثر من 75 في المئة من المهاجرين وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ثم ألمانيا فإسبانيا ودول أوروبية أخرى كفرنسا وبريطانيا. فظاهرة الهجرة أحدثت تغييراً جذريّاً في مسار العلاقات الدولية عن طريق ما يسمى بعولمة موجات الهجرة وتقوية الشبكات العابرة للدول والخرق المستمر للحدود الوطنية، وأصبحت الدولة الوطنية بمفهومها "الفستفالي" التقليدي هي الخاسر الأول وإن كانت لا زالت تقاوم ولو باستحياء في بعض الأحيان مواطن السيادة التي تملكها. فالوطنية العابرة للقارات، حسب تعبير أحد كبار المختصين في الهجرة العالمية الأميركي جيمس هوليفلد، والتي نجدها في التجارة والاستثمارات العابرة للحدود، يمكنها أن تهدد سيادة الدولة القومية وسلطتها. فالهجرة على وجه الخصوص تمثل تحديّاً كبيراً لأن التنقل غير المرخص له للأشخاص عبر الحدود يمكن أن ينال من مبدأ السيادة. فالمواطنة أو خاصية انتماء الأفراد إلى مجتمع ما يمكن أن تتحول بشكل يمس العقد الاجتماعي، ويجعل شرعية الحكومة وسيادتها تهتزان. فالهجرة ينظر إليها في كثير من الأحيان كتهديد للأمن القومي، يؤدي إلى نشوب نزاعات داخلية وخارجية. ومن هنا يمكن أن نتحدث عن التناقض الليبرالي: فالمنطق الاقتصادي للنظام الليبرالي هو منطق الانفتاح بيد أن منطقه السياسي والقانوني هو منطق الانغلاق. فكيف يمكن لهذه الدول أن تجتنب هذا التناقض؟ تجيب المختصة الفرنسية المذكورة عن ذلك باقتراح ثلاثة توجيهات انطلاقاً من نظرتها إلى الواقع الأوروبي في تعاملها مع المهاجرين الأجانب وغالبيتهم من المسلمين: أولا، ضرورة عدم جعل المهاجرين رهائن لسياسات أمنية وسياسة محاربة الإسلاموية تم تبنيها في حوض المتوسط، وعدم الخلط بين الهجرة والإرهاب والمخدرات والجريمة، وذلك بفضل دمقرطة التنقل عبر الحدود لأكبر عدد ممكن من الناس. كما تستدعي هذه السياسة إصلاح سياسة التأشيرات لأن التشديد فيها يخلق مظاهر الاحتيال عليها والمتاجرة بالوثائق المزورة. وترصد أموال طائلة لمحاربة الدخول السري للحدود في دول البحر الأبيض المتوسط، في حين أن هذا المشكل لا يطال سوى 10 في المئة من الهجرة غير الشرعية التي تنجم في أغلبها عن تمديد الدخول الشرعي إلى إقامة غير شرعية. ثانيّاً، الأخذ بعين الاعتبار الهجرة كعامل للتنمية في سياق عام. وبهذا تكون الهجرة وسيلة فعالة لإرساء مواطنة عابرة للحدود وليبرالية إيجابية قادرة على جعل المهاجرين وسطاء في الشراكة والتعاون والمشاركة في الفضاء المتوسطي، شريطة أن يكون لهم الحق في التنقل بكل سهولة وفي العودة الفردية. ولعل تأمين نظام نقل الأموال وإعطاء الضمانات للمهاجرين بهدف خلق مقاولات في بلدانهم الأصلية كفيل بتحقيق ذلك. ثم إن تعزيز هذه الحقوق لا يمكن أن يتحقق إلا إذا استفاد المهاجرون كذلك من حماية حقوقهم في الاتفاقيات الدولية، وخصوصاً اتفاقيات منظمة العمل الدولية ومنظمة الأمم المتحدة. ولم توقع سوى بعض الدول إلى حد الآن على اتفاقية الأمم المتحدة حول حقوق العمال المهاجرين وعائلاتهم، ولا تشمل الدول الأوروبية ولا حتى المغرب وتونس اللتين أصبحتا دولتين مستقبلتين للمهاجرين الأفارقة. ثالثاً، تشجيع وتقنين الإقامة والمواطنة المشتركة المبنية على احترام حقوق الإنسان. ولعل مواطنة مشتركة تأخذ بعين الاعتبار التنقل المشروع وفق شروط محددة، والإقامة وفق سياق دولي يتناسب مع الفكرة الكانطية (نسبة للفيلسوف الألماني كانط) للمواطن العالمي، عامل يساعد على التخفيف من سياسات الانغلاق التي تتبعها معظم الدول، ويعتبر طريقاً للاعتراف بحقوق الأقليات والمشاركة المحلية التنموية في الدول الأصلية ودول الاستقبال. ويبقى الحوار الأورو متوسطي مطبوعاً بنفاق مرتبط بتنوع المصالح، خصوصاً إذا لم تتم معالجة المشاكل الحقيقية: التمييز الاجتماعي والجغرافي للمهاجرين، وأزمة هوية الأجيال المنحدرة من الهجرة، ومكانة الإسلام في دول الشمال، ومشكل التنمية والفقر والديمقراطية في دول الجنوب، وغياب إجماع دول المغرب العربي حول سياسة مشتركة، وحق الهجرة في دول الجنوب. ولعل الفجوة بين ضفتي المتوسط دليل على عولمة جامحة تطال التبادل الاقتصادي والسياسي والديموغرافي والاجتماعي والثقافي. وإذا أردنا أن نجعل المهاجرين شركاء بشكل تام في هذا التبادل المتوسطي، وفاعلين في هذه المشاركة وفي هذه التنمية، يجب تمكينهم بطريقة أكثر سهولة فيما يتعلق بحق التنقل وحق المواطنة.