هناك اصطلاح كان يستخدم في الفلسفة الصوفية المسيحية خلال القرون الوسطى هو "سحابة انعدام المعرفة". وإذا ما شئنا تطويع هذه العبارة للاستخدام العلماني المعاصر، فيمكننا القول إن هذه السحابة كانت تزداد قتامة مع اقتراب موعد انعقاد قمة "الناتو" الأخيرة، والتي شاركت فيها دول أميركا الشمالية، وغرب أوروبا، المنخرطة حالياً في حرب أفغانستان. وهذه العبارة مناسبة تماماً لأنها كانت تتحدث ليس فقط عن "غير المعروف"، وإنما عما هو "غير قابل للمعرفة". والغرض المعلن لتلك القمة هو مساعدة أعضاء الحلف على تأسيس معنى لما يقوم به "الناتو" اليوم، سواء في أفغانستان أو في أماكن أخرى من العالم، وكذلك ما يفترض أن يقوم به مستقبلاً. والإجابة عن السؤال الأول صعبة للغاية، نظراً لأن رئيس الحكومة الذي يفترض أن "الناتو" يقوم نيابة عنه، بشن هذه الحرب المكلفة، قد طالب الحلف بتغيير تكتيكاته في أفغانستان وتقليص جهوده، ووقف التدخل في شؤونه، وذلك بينما يصعد جنرالات "الناتو" تهديداتهم ضد الحكومة الأفغانية، إذا ما واصلت رفضها لما تقوم به الدولة الحامية، وهي الولايات المتحدة، ضد الشعب، ورفضها التصرف مع أفغانستان كما لو كانت أمة محتلة تُملى عليها الأوامر من قبل قوة خارجية، في الوقت الذي تتعرض فيه للتأديب والمضايقات من قبل الجنود الأميركيين. وسياسات القوى الغربية اليوم تختلف حسب المقصود بـ"القوى الغربية"، فهل هي: الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الأخرى التي تبقى بشكل عام دولاً أطلسية حليفة بشكل لا يقبل الجدل... أم هي: مجموعة أخرى من أعضاء الحلف يمكن أن يكونوا في حالة عدم يقين بشأن وضعهم... أم هي الحلفاء الآخرون الذين فقدوا أي اهتمام لهم بالحرب التي يخوضها الحلف في أفغانستان، والذين لم تعد تعني لهم شيئاً، وليس لها أي أهمية أو ارتباط بالموقف الأمني لدولة مثل كندا أو للقوى القارية الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا. لقد تحولت الحرب في أفغانستان إلى انخراط سياسي ضروري للولايات المتحدة، التي لم تعد سياستها الأمنية تعني أي شيء بالنسبة لكثير من حلفائها. والسياسة الأميركية بالنسبة لهؤلاء الحلفاء تبدو اليوم "ضائعة في الأوهام"، أو تبدو كمرآة يظهر فيها كل شيء على العكس تماماً مما هو في الواقع. ما سبب وجود "الناتو" في أفغانستان؟ لأن الولايات المتحدة أصرت على أن تغزو هذا البلد لرعاية ممارسة ديمقراطية رسمية، أسفرت عن انتخاب حكومة تسيطر عليها أقلية عرقية، تتهمها واشنطن حالياً بالفساد، وبرفض الاستمرار في القيام بدورها المفترض كحكومة متعاونة مع الولايات المتحدة. وهي حكومة أثبتت عجزها حتى الآن عن تدريب قوة جيش وقوة شرطة منضبطين، وقادرين على حماية البلد ضد تمرد أقلية ذات شأن تنتمي لأكبر عرقية في البلد. لقد ذهب "الناتو" إلى أفغانستان لفرض مثل هذه الحكومة على الشعب الأفغاني رغم معارضة مجموعات معينة داخل هذا الشعب. لكن لماذا لا ينسحب "الناتو" ويترك الشعب الأفغاني يقرر أموره بنفسه؟ خلافاً لما كان عليه الحال أيام الحرب الباردة، لا توجد حالياً قوة خارج أفغانستان تسلح وتوجه الجماعة التي تقاوم المحاولات الرامية لحكمها من قبل السلطة المتحالفة مع "الناتو" والمقيمة في كابول. لماذا لا يترك الأمر للأفغان كي يحلوه بأساليبهم الخاصة؟ السبب المنطقي الوحيد الذي يمكن تقديمه في معرض الإجابة على هذا السؤال، هو أن دول "الناتو" خائفة من حركة التمرد المكونة من جماعات راديكالية، وتخشى من أن تنتقل عمليات هذه الحركة لمكان آخر. هل يمكن أخذ هذه الحجة على محمل الجد؟ ما الذي يدعو 28 دولة من دول "الناتو"، تضم دولاً صناعية غربية كبرى، كما تضم قوى عسكرية وذرية ضخمة، إلى الخوف من أفراد مسلحين؟ أعتقد أنه من الضروري للغاية بالنسبة لقمة "الناتو" أن توضح السبب الذي يدعو الحلف للتواجد في أفغانستان. لقد تم تأسيس "الناتو" في الأصل من أجل حماية أوروبا الغربية من خطر هجوم سوفييتي، وكأداة لتمكين الجيش الألماني من إعادة التشكل على أسس غير قومية، حيث لم يكن مسموحاً لجيش ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية بأن يكون لديه رئاسة أركان مستقلة بل كان جيشاً يخضع لقيادة "الناتو". هذان الغرضان تحققا حيث اختفى التهديد السوفييتي بسقوط الكتلة الشرقية، كما أعيد تشكيل الجيش الألماني تحت قيادة "الناتو" وفق ما كان مخططاً. ومع ذلك بقي "الناتو" رغم انتفاء الحاجة إليه، وكان ذلك فقط بفضل القصور الذاتي البيروقراطي. ولم يكن أمام الحلف سوى أن يبحث عن مبرر آخر لوجوده وعن دور جديد هو أن يكون قوة مكملة للقوة العسكرية الأميركية كي يساعدها على تنفيذ أجندتها الخارجية، التي تقدم على أنها السياسة الخارجية المشتركة بين الديمقراطيات الغربية، رغم أنها ليست كذلك في الحقيقة. ولا يبدو والحال هكذا أن هناك تفسيراً لتضحية شباب تلك البلدان بحياتهم من أجل أهداف تلك السياسة. هذه الأسئلة كان ينبغي طرحها على قمة "الناتو"، وإن كان المرء يشك في حدوث ذلك فعلاً. لكن مما لا شك فيه أن تلك الأسئلة ستظل باقية، وستجد الولايات المتحدة ودول "الناتو" نفسها في نهاية المطاف مضطرة لتناولها، وتقديم الإجابة عنها لشعوبها.