طاب لي أن أستعرض والجميع يدلف للأسابيع الأخيرة من هذه السنة بفرعيها الهجري والميلادي مصروفاتي الشخصية في السنة الشخصية المنتهية وخرجت بنتيجة مثيرة غاية في السوء... تقول إن أكثر من 60 في المئة من مصروفاتي للعام المنصرم لم يكن لها مردود إيجابي منتج، ولم يكن من الضروري القيام بها، وكان يمكن بكل بساطة وبدون تبعات توفيرها للأهم وأنها أقرب للاستهلاك المظهري الإسرافي النـزق، وأبعد كثيراً من أن تكون ضرورية أو حتى شبه ضرورية... ولهذا فأنا خاسر أكبر في السنة المالية الشخصية المنصرمة، وحصلت على مرتبة الشرف الأولى في ذلك. أنا لست الوحيد بالتأكيد في هذا المسلك بل إن الجميع في عالمنا المشرقي يفعل فعلي... وأكثر، وإن مقولة اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب هي مقولة راسخة في وجداننا المشرقي، وأن فضيلة التوفير والادخار ووضع الميزانيات المحكمة التي يمكن خرقها في حالات معينة منفردة شاذة فقط هي من المستحيلات وضرب من ضروب المحال الاستهلاكي العربي الذي تعززه وقائع كل يوم، وفواتير الأشهر والسنوات السالبة تثبت هذا. يقول صديق لي إن ابنه واقع في مشكلة كبيرة فقد حصل على بطاقة ائتمان من مصرف (ما) وعندما نفد الحد الائتماني لها وحل موعد السداد أخرج بطاقة أخرى من مصرف آخر لتسديد مستحقات الأولى، وعندما حل موعد استحقاق ما في ذمته للبطاقة الثانية أخرج واحدة ثالثة، وهكذا، لتسديد ما قبلها، كل ذلك لأجل متعة سفر لا تتعدى أيامها عدد أصابع اليد الواحدة، وهكذا تمضي أيام الصديق وابنه الذي تتراكم عليه الديون يوماً بعد يوم وسينتهي به الحال بالتأكيد في القريب العاجل إلى ما وراء قضبان السجون، إن لم تحدث المعجزة، وهي قليلة في أيامنا الحاضرة وخاصة في الشأن المالي. في كل ليلة أشاهد عربات النظافة التي تجوب شوارع مدينتي لتفريغ حاويات القمامة والمخلفات في بطون شاحناتها وقد هالني مقدار ما يخلفه أهل حينا (فقط) من مخلفات طعام وأكياس نايلون غير قابلة للتحول وأشياء أخرى كثيرة منها كميات طعام باقية من موائدنا التي توضع منذ الصباح وحتى المساء. نهم استهلاكي يندر مثيله عالميّاً والنتيجة فيضان المخلفات بكل أنواعها وأشكالها، التي لا تقدر صناديق القمامة على احتوائها، كان ذلك في الرياض والقاهرة، ودمشق، وتونس، وبيروت، وكل بلدان ثقافة اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب...شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. والغريب أن هذا السلوك الشعبي غير الرشيد في الاستهلاك، الذي يدخل كثيراً من الناس دوامة الديون وألم معاناة ظلام السجون والخوف من قرع جرس الباب، أو نغمة هاتف تخبر بأن مكتب التحصيل قادم غداً، الغريب أن ذلك ينسحب على حكوماتنا كما على عامة الشعوب مع فارق أماكن أسماء أصحاب الديون ومصائر هؤلاء وهؤلاء. حكومة عربية كان الدَّين القومي عليها لا يتعدى 7 مليارات دولار عام 1994 ليصبح هذه الأيام حوالي 60 مليار دولار عام 2010، وهذه الدولة تدفع فوائد الدين سنويّاً بما يقدر بـ 3 مليارات دولار تقوم من أجلها بطرح سندات خزينة بسعر أعلى من سعر الفائدة في السوق بحوالي 200 نقطة أساس. وهذا البلد العربي يعيش أزمة شديدة في الخدمات عامةً، فالكهرباء تنقطع 12ساعة في اليوم، والأنهار التي يتمتع بها هذا البلد منبعاً ومصباً لا تنعكس إلى صنابير المياه في البيوت التي تشهد قحطاً مائيّاً على رغم سماع صوت الأنهار وهي تندفع بقوة. هذا البلد في أزمة على رغم إمكانياته النظرية الكبيرة، والبطالة قي أعلى معدلاتها والهجرة هرباً من ضنك العيش والبطالة تتوالى أرقامها الصاروخية يوماً بعد يوم... أين إذاً صرفت 50 مليار دولار؟ ....ولماذا الديون إذاً؟ في خليجنا كذلك هناك مشاريع متشابهة في الأهداف المرجوة منها وتكرارها في كل بلد خليجي فيه إهدار للمال العام غير مبرر وستئن منه الأجيال القادمة لا محالة. وهذا الكلام ينسحب على مشاريع البتروكيماويات والمطارات وشركات الطيران والجامعات والأنشطة السياحية والترفيه. ومن جهة أخرى عُد مثلاً كم مركزاً تجاريّاً ضخماً في دولنا الخليجية التي لا يتعدى سكانها 45 مليوناً، وقارن هذا بمدينة مثل باريس، أو لندن، أو موسكو. إن المدن الكبيرة سيكون حظها مركزاً تجاريّاً لكل مئة ألف نسمة من السكان أو أكثر. أما في دولنا فإن لكل عشرة آلاف شخص مركزا تجاريا تقريباً في كل واحدٍ منها متاجر تُشابه المتاجر الأخرى، والكل تفيض فيه الملابس والأحذية والعطور وأدوات التجميل... إلخ. ثقافة التبذير وعدم الادخار التي ورثناها من جينات أجدادنا تعززها عشرات الإعلانات التلفزيونية والإذاعية، التي في الصحف، أو منتصبة عند إشارات المرور، والنتيجة هي الرايات البيضاء التي ترفعها جيوبنا في منتصف الشهر. قبل أيام استجبت لدعوة صديق لحفلة زواج ابنه، وقلما استجيب لمثل هذه الحفلات لعدة أسباب أحتفظ لنفسي بها، ولكن لقرب هذا الصديق من نفسي كنت أول الحاضرين لحفل زواج نجله، وكان الحفل مختصراً إلى حد كبير في عدد الحضور واستبشرت خيراً بهذا، ولكن فرحتي اغتيلت عندما دلفت إلى قاعة الطعام وإذ بي أجد أن الخمسين شخصاً من المدعوين يجلس كل اثنين منهم إلى صحن كبير فيه ذبيحة كاملة... أي أن هناك خمسة وعشرين كبشاً لخمسين مدعوّاً إلى جانب عشرات الكيلوجرامات من الأرز والمطعمات والمقبلات والحلويات وأنواع كثيرة من الخبز إضافة لأكلات من الشرق والغرب والعالمي. لا أعرف ماذا ستكون النتيجة لكل هذه المعركة الطعامية ستكون على الأرجح في مكبات القمامة، وارتفاع في الدهون الثلاثية، والسكر والضغط للمدعوين الساخطين على الداعي! البنك المركزي الياباني خفض الفائدة التي تعطيها البنوك اليابانية لعملائها إلى حدود الصفر أو أقل من ذلك، أي أنك إذا وضعت ثمانين ألف ين (ما يعادل ألف دولار) في البنك فإنك لن تأخذ عليها جزءاً من الين الياباني على الإطلاق. ويمكن أن تقل هذه الثمانون ألف ين قليلاً مقابل أتعاب البنك... لماذا؟ لأن الحكومة اليابانية متأذية من ضخامة ما يدخره اليابانيون من مداخيلهم وتريدهم أن يضخوا هذه المبالغ المدخرة في استثمارات عديدة إما في أسواق المال، أو في مشاريع أخرى. قارنوا كل هذا بقصة الصديق والخمسين كبشاً، أو ابن الصديق الذي يسدد من خلال البطاقة الائتمانية الرابعة استحقاقات البطاقات الثلاث الأولى!!