خلال الجولة التي كنت أقوم بها حول الولايات المتحدة لمناقشة كتابي الجديد "أصوات عربية" في محاولة مني لهدم الأساطير العديدة الراسخة لدى الأميركيين بشأن العرب كثيراً ما كان يلقى في وجهي السؤال التالي: "لكن هل يفهمنا العرب على الوجه الصحيح؟"، وفي ردي على هذا السؤال كنت دائماً أشير إلى التأثير الكاسح للعولمة في انتشار العديد من ملامح الثقافة الأميركية التي باتت معروفة ومألوفة لدى كثيرين حول العالم. ولكن على رغم هذه الدرجة من الألفة أعترف أنه بنفس الطريقة التي تظلل فيها أساطير خاطئه الفهم الأميركي تجاه العرب توجد أيضاً أساطير كثيرة تشوه فهم العرب لأميركا والشعب الأميركي، وفي هذا السياق دعوني أورد بعض الأمثلة. أولا: هناك الاعتقاد السائد لدى العرب بأن عملية صياغة السياسة الأميركية إنما تتم على نحو تشاوري بالاعتماد على فهم عقلاني للمشاكل المطروحة وإدراك جيد للنتائج المترتبة عليها، والحال أن هذا من الأساطير المضللة التي تفسح المجال أمام ازدهار نظريات المؤامرة، فعلى سبيل المثال عندما غزت أميركا العراق وتبين أن الخطة بأكملها لا تسير في الاتجاه الصحيح اعتقد العديد من العرب أن المسألة لم تكن مجرد خطأ أميركي في التقدير والتخطيط، بل كانت نية مبيتة منذ البداية الهدف منها خلق الفوضى وإضعاف العراق لجعله مرتهناً للتواجد العسكري الأميركي، والحقيقة أن هذا التفسير بعيد كليّاً عن الواقع الذي يقول إن العناصر المؤدلجة التي كانت وراء صياغة سياسات إدارة بوش هي من ضللت نفسها بخطابها المتهافت. فقد اعتقد أولئك العناصر أنه بعد انتصار أميركا في الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي بالإضافة إلى مشاعرهم العنصرية ضد العرب يمكنهم استخدام القوة المفرطة فيما بات يسمى بـ"الصدمة والرعب"، كما يستطيعون من خلال الإرادة القوية التي يدعمها التحرك العسكري الإطاحة بالنظام وتحرير شعب العراق. ففي نظرتهم الأسطورية تصوروا الشعب العراقي وهو خاضع لقوتهم العسكرية يستقبل القوات الأميركية بالورود والحلوى، ليمهد ذلك الطريق أمام نشر الديمقراطية وازدهارها في عموم الشرق الأوسط. وعلى رغم الأصوات العاقلة في الولايات المتحدة التي سعت إلى تحذير جماعة المحافظين الجدد من مخاطر التدخل في المنطقة، فقد مضى هؤلاء في خططهم التي جرت عليهم الانتقادات ضاربين عرض الحائط بالتقديرات الحصيفة في السلكين الدبلوماسي والعسكري من أن المغامرة العسكرية الأميركية في العراق لن تكون مجرد نزهة بسيطة كما اعتقد المحافظون الجدد وبأن الشعب العراقي لن يقبل الاحتلال. ومن جهتهم لم يستسغ العرب أن كل ما تلا غزو العراق من نتائج وخيمة متمثلة في زعزعة الاستقرار في المنطقة أنها مجرد خطأ في التقدير بل اعتبروه نية مقصودة، فليس من المعقول حسب العرب أن ترتكب القوة العالمية الوحيدة المتبقية كل هذه الأخطاء الجسيمة ولذا كان لابد من تناسل نظريات المؤامرة لتفسير تلك الأخطاء. والمشكلة أن التعامل مع السياسيين الأميركيين وكأن لديهم نيات مبيتة ومرامي خفية جعلتهم أذكى مما هم عليه في الواقع، وهو أساس الأسطورة الأولى التي تصطبغ بها النظرة العربية إلى الولايات المتحدة. أما الأسطورة الأخرى التي تحظى بانتشار واسع في الأوساط العربية فهي المتمثلة في الدور المبالغ فيه للوبي الإسرائيلي أو الطائفة اليهودية في أميركا وسيطرتها على جميع مفاصل القوة والنفوذ في الولايات المتحدة، والحال أن الجزء الأكبر من الثروة والنجاح والنفوذ المتواجد في أميركا، حتى وإن كان اليهود قد حققوا بالفعل نجاحات مهمة في جميع مناحي الحياة، تبقى في أيدي الشرائح التقليدية في أميركا من البروتستانت البيض الأنجلو- ساكسونيين. ومع أن اللوبي الإسرائيلي في أميركا يمارس نفوذاً كبيراً لا يمكن التشكيك فيه، إلا أن هناك مجموعة من الحقائق الأخرى التي يتعين أخذها بعين الاعتبار، مثل ما يشكله الجناح اليميني من المسيحيين الأصوليين من قوة تصل إلى 40 في المئة من القاعدة الانتخابية للحزب "الجمهوري" بحيث يلعبون دوراً مهمّاً في صياغة سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، كما تشير استطلاعات الرأي إلى أن أغلب اليهود الأميركيين والمسيحيين لا يؤيدون المواقف المتطرفة لإسرائيل، إذ تبقى فكرة القوة الهائلة لجماعات الضغط اليهودية مثل "آيباك" مجرد أسطورة أخرى لا أساس لها من الصحة. والمفارقة أن هذه الأسطورة لشدة تكرارها أُخذت على محمل الجد سواء من مؤيدي "آيباك"، أو من مناهضيها وبتنا نرى العديد من أعضاء الكونجرس يؤمنون بها إلى درجة أنهم يؤثرون السلامة واتقاء شر جماعات الضغط بالانصياع التام لمطالبها حتى لو كانت قوتها أقل بكثير مما يُروج له، كما أن العديد من المسؤولين المنتخبين الذين يدعون أن "آيباك" هزمتهم في الانتخابات، وهو الادعاء الذي تقبله جماعات الضغط اليهودية بطيب خاطر وتسعى إلى تكريسه لإخافة المسؤولين، يجهلون في الغالب أن سبب سقوطهم في الانتخابات إنما يرجع إلى أسباب أخرى لا علاقة لـ"آيباك" بها. وفي أسطورة أخرى يرى العرب أن الأميركيين أصبحوا أكثر تعصباً تجاه المسلمين والعرب، وأن أميركا لم تعد المكان المتسامح الذي يستطيعون فيه ممارسة حريتهم الدينية، والحقيقة عكس ذلك تماماً، فعلى رغم التصاعد الملحوظ في جرائم الكراهية تجاه المسلمين في السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك يبهت مقارنة بتلك التي تستهدف اليهود ومعاداة السامية، كما أن الإعلام الذي لا يركز سوى على الحوادث السلبية والجرائم العنصرية مثلما حصل مع القس المتعصب الذي دعا إلى إحراق المصحف الكريم يساهم في تكريس هذه الأسطورة، فيما يتجاهل المبادرات الإيجابية التي تُبذل لتقريب وجهات النظر وردم الهوة بين العرب والأميركيين.