أين يمكن أن نضع تركيا في موازين الشد والجذب، بين إيران والعالم العربي؟ هل نعطي تركيا "توكيلاً عربياً عاماً من أجل تحقيق توازن أمام إيران؟ وأين موقع العالم العربي في سلم الأولويات والمصالح التركية؟ لا ينبغي على الإطلاق أن نخدع أنفسنا، يؤكد الباحث الأردني، المتخصص في الشؤون التركية، د. محمد نور الدين أن تركيا بلد علماني أراد من مجمل سياساته عبر تاريخه، ومنها التحالف مع الغرب ومع إسرائيل، أن يؤكد "لا إسلاميته"! ومن هنا، فتكليف تركيا القيام بدور "سُنّي" إقليمي مقابل إيران أو غير إيران، لا ينسجم مع الأسس العلمانية لتركيا. كما أن استغراقها في مشروع شرق أوسطي كبير لاحتواء إيران، يُبعدها عن خيارها الاستراتيجي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. إن الأتراك تاريخياً، يضيف د. نور الدين، لا يثقون بنوايا العرب والغرب على حد سواء! ولتركيا مصالح اقتصادية مشتركة مع إيران، والرأي العام التركي يكن كراهية واسعة للسياسات الأميركية في المنطقة ويرفض أي دور لصالحها، ضد إيران. وهناك خصائص تركيا لابد أن تؤخذ كذلك بالاعتبار. فهناك البنية العرقية الهشة لتركيا، 12 مليون كردي أي سدس السكان، ونحو عشرين مليون علوي على الأقل، من أصل 73 مليون سني أي 18 في المئة من عدد السكان. ولا خلاف حدودي بين البلدين، فهي أقدم حدود مرسومة بين دولتين في الشرق الأوسط، بموجب اتفاقية "قصر شيرين" في 17 مايو 1639. كما أن سياسات "حزب العدالة والتنمية" وإن كانت في بعض ملامحها "سُنية الطابع، إلا أن جوهرها التواصل مع العمق التاريخي والجغرافي لتركيا. "وهذا العمق الثقافي يشمل العرب والإيرانيين معاً". وهذا ما رأيناه في مقالاتنا السابقة عن اللغة والآداب والثقافة التركية، ومدى تأثرها جميعاً باللغتين والثقافتين العربية والفارسية. ثم من قال إن العالم العربي- وبخاصة مصر والسعودية وهما منافستا تركيا تاريخياً- يريد مثل هذا الدور السياسي والعسكري لها في "منطقتنا". في نهاية حديثه، يؤكد د. نور الدين، أن الهم الأساسي لتركيا في الشرق الأوسط هو الوضع في العراق ومطامح الأكراد فيها، كما أن الخيار الأبعد للأتراك جميعاً الاتحاد الأوروبي لا الشرق الأوسط، وترفض النخب العلمانية والعسكرية بصورة قاطعة غرق تركيا في الشرق الإسلامي، ولا يتحمس الإسلاميون الأتراك لمثل هذا الاحتمال. غير أن العلاقات الجيدة لتركيا بمختلف الفرقاء في الشرق الأوسط، إيران وسوريا وبقية العرب وإسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، تتيح لأنقرة دوراً مسهِّلاً وناصحاً وواصلاً ومحذراً ومصححاً ومشاركاً. وما إلى ذلك من أدوار! ولكن إن كانت نظرة تركيا لإيران محسوبة مدروسة، آخذة في الاعتبار الماضي والحاضر والمصالح والاستراتيجيات، فهل تلعب إيران في المنطقة بنفس القوانين؟ هذه الدولة، يقول الباحث الفلسطيني المقيم في سوريا "ماجد كيالي"، تقدم دعماً كبيراً لمنظمات المقاومة، المحسوبة على الإسلام السياسي (حزب الله في لبنان وحماس والجهاد في فلسطين)، وهي تعارض عملية التسوية، وتناهض توجهات القيادة الفلسطينية الرسمية. لحسن حظ إسرائيل، ولأسباب كثيرة، لا يمكن وصول إيران وتركيا والعرب إلى اتفاق أو تحالف استراتيجي ضد تل أبيب! ولكن مجرد التقارب الثلاثي أثار أشد القلق في الأوساط الإسرائيلية. فإسرائيل تعاني في هذه المرحلة من مشاكل مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. ولم تكن نتائج الحرب اللبنانية عام 2006 أو غزة عام 2008 مطمئنة. بالإضافة لهذا، يقول "كيالي"، إن إسرائيل باتت تدرك أن الحرب لم تعد سهلة، وأن جبهتها الداخلية مكشوفة نتيجة دخول أسلحة صاروخية في الحسابات الحربية. لقد أنفقت إيران حتى الآن على قضايا لبنان وفلسطين ملايين الدولارات، واختطفت أعلام المقاومة من كل القوى الوطنية المحلية والحكومات المسؤولة، وأثارت غضباً محلياً وخارجياً لا حد له. ويتساءل الكثير من الإيرانيين اليوم عن سبب استمرار مشاكلهم الطاغية، من بطالة ونقص تموين وإسكان ونقص خدمات، إن كان لدى الدولة فائض مالي بهذا الحجم تنفقه على الآخرين! بمن يثق العرب اليوم أكثر، والفلسطينيون خاصة، للعب دور مؤثر في قضاياهم، الإيرانيين أم الأتراك؟ أعتقد أن ثقة الفلسطينيين والعرب بالأتراك أكبر وأرسخ. لا بسبب العامل المذهبي، بل لواقعية السياسة التركية ونضجها وتدرجها، ولنجاحها الاقتصادي والتنموي في الداخل، ولصداقاتها الدولية الواسعة الممتدة من الولايات المتحدة إلى أوروبا وإسرائيل، والعالمين العربي والإسلامي. ورغم أن تركيا تتفق مع شركائها الأميركيين والأوروبيين في مساعي منع إيران من امتلاك السلاح النووي، فإنها ترى ضرورة تغيير النهج الدولي المتبع حالياً مع طهران، واعتماد الدبلوماسية والحوار بدلاً من العقوبات والتهديد بالحرب، وتخشى أنقرة من أن أي مغامرة عسكرية في المنطقة قد تزعزع استقرارها، كما أن من المؤكد أنها ستؤثر سلباً في اقتصادها. وفي مجال الطاقة، تقول إحدى الدراسات: "تعد إيران ثاني أكبر مورِّد للغاز الطبيعي بالنسبة لتركيا بعد روسيا، حيث تعتمد عليها في توفير ما يقرب من ثلث احتياجاتها من الغاز، برغم العقوبات والحصار المفروضين على طهران، وهو ما يفسر رفض تركيا لأية عقوبات أو عمل عسكري ضد إيران. وقبل أشهر قليلة، كشف مسؤول كبير في قطاع الطاقة الإيرانية عن أن صادرات الغاز الطبيعي الإيرانية ارتفعت على مدى الشهر الأخير بنسبة 98 في المئة، وأن الجانب الأكبر من هذه الزيادة تتجه إلى تركيا. كذلك أعلن وزير الطاقة التركي، في الشتاء الفائت، أن هناك مباحثات بين أنقرة وطهران وبرن لتنفيذ مشروع، تُصدِّر إيران بموجبه الغاز إلى سويسرا عبر تركيا، مقابل رسم عبور تحصل عليه أنقرة". وتشير التقارير الدولية إلى زيادة معدلات النمو في الاقتصاد التركي المعاصر مما يزيد من حاجتها إلى الوقود. وتؤكد دراسة الباحث بشير عبدالفتاح في دورية "السياسة الدولية"، أن تركيا "أصبحت تستهلك ما يتجاوز مائة مليون طن من النفط ومشتقاته سنوياً، وفقاً لتقديرات وزارة الخارجية التركية، يسهم النفط وحده فيها بنسبة 36 في المئة، بينما يسهم الغاز الطبيعي بنسبة 26 في المئة في الوقت نفسه، تُصنَّف تركيا كدولة غير منتجة لمصادر الطاقة، وتعتمد على جيرانها في توفير الشطر الأعظم من احتياجاتها في هذا الخصوص... وتنتج تركيا من الفحم والغاز الطبيعي 40 ألف ميجاوات، أو نحو نصف حاجتها من الكهرباء، في حين تشكل الطاقة المتولدة من الماء ثلث استهلاك البلاد، ويتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 46 في المئة بحلول عام 2020، من خلال التجهيزات الإضافية التي ستقام في شرق تركيا وجنوبها الشرقي. وقد اقترح الرئيس التركي خلال زيارته لقطر في فبراير عام 2008، مبادلة المياه التركية بالنفط الخليجي، وهناك حالياً مشروع لمد أنبوب غاز يصل تركيا بقطر، التي تستثمر فيها الشركات التركية ما مجموعه خمسة مليارات دولار. وفي خطابه أمام القمة العالمية لطاقة المستقبل، التي استضافتها أبوظبي في يناير 2010، أعلن أردوغان أن تركيا تهدف إلى تلبية نحو 30 في المئة من متطلبات استهلاكها للطاقة الكهربائية بحلول 2030 عن طريق الطاقة المتجددة". والآن، هل تستطيع تركيا أن تحقق كل طموحاتها في مجال التنمية والطاقة والتحرك السياسي، دون أن تثير استياء بعض جيرانها من عرب وإيرانيين وأكراد وأوروبيين وروس؟ وهل تنجح في الجمع بين إرضاء كافة هذه الأطراف، إلى جانب إسرائيل وحلف "الناتو"؟ إن للعراقيين مثلاً شكوى مريرة من انخفاض مستوى تدفق المياه العذبة في بلاد الرافدين إثر بناء السدود التركية. غير أن الدور التركي في هذه المرحلة، كما يرى البعض، عامل كبح وتوازن على أكثر من صعيد: في العلاقات العربية - العربية، العلاقات العربية - الإيرانية، العلاقات الغربية - الإيرانية، وبالطبع في الصراع العربي - الإسرائيلي، ولهذا سيستمر التحرك التركي وقد يتسع!