لم يكن الصوفي الكبير معروف الكرخي غزير العلم، لكنه كان كثير العطاء، قرن قوله بفعل، وكره الجدل، وروى الناس عنه كرامات عديدة. كان كثير الصيام والقيام والمجاهدة، لكن أهم قيمة تركها لمن عاصروه وجاؤوا بعده هي التسامح. فقلب شيخنا كان مفتوحاً للجميع، وعقله لم يغلق يوماً أمام أحد حتى ولو من كارهيه أو من يناصبونه العداء. في حياته ومماته دليل دامغ على أن المسلمين في زمن ازدهار حضارتهم عرفوا وألفوا التعايش المذهبي، وتركوا الأبواب مفتوحة على مصاريعها أمام كل من رام معرفة، أو سعى إلى هداية. كان الكرخي أحد رموز الصوفية الكبار في بغداد، وهو خليفة القطب المعروف أبي سليمان داود الطائي. ويقال إنه قد أخذ الطريقة من مسلكين، الأول عن الشيخ داود الطائي عن الشيخ الحبيب العجمي عن الشيخ الحسن البصري عن الإمام علي رضي الله عنه. والثاني عن الإمام علي الرضا عن الإمام موسى الكاظم عن الإمام جعفر الصادق عن الإمام محمد الباقر عن الإمام علي زين العابدين عن الإمام الحسين عن الإمام علي رضي الله عنهم. وقد روى عن داود الطائي وابن السماك وعلي الرضا وبكر بن خنيس. وقد ولد الكرخي في أسرة مسيحيّة، لكنه تحول إلى الإسلام في ميعة الصبا، وتسبب في إدخال والديه إلى هذا الدين. وحين اعتنق الإسلام هرب من أبويه، وانقطعت أخباره لفترة، تركت في قلبي والديه حزناً دفيناً. وكان الأبوان يقولان: ليته يرجع إلينا، على أي دين كان، فنوافقه إليه. فلما رجع ذات يوم ودق لباب، قيل: مَن؟ قال: معروف، فقالا: على أي دين؟، قال: دين الإسلام؛ فأسلم أبواه. ويقال إنه دخل الإسلام عن طريق الإمام علي بن موسى الرضا، وظل قائماً على بابه، فبات بذلك قريباً من الشيعة، ثم تحول إلى باب الإمام أحمد بن حنبل، فصار قريباً من السُّنة. وشهد للكرخي أهل زمانه من العلماء والفقهاء والصالحين وأهل الطريق. فقد ذكر معروف عند الإمام أحمد بن حنبل أحد فقهاء السنة الكبار فوصفه أحدهم بأنه قصير العلم فقال ابن حنبل غاضباً: "أمسك وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف". وقد شهد أبو حيان التوحيدي له بالتسامح في كتابه "مثالب الوزيرين" حين تحدث عن موقف الوزير الصاحب بن عباد، من المتكلمين، حيث قال: "ما قولي هذا فيهم إلا قولك يوم اجتماعنا في مقبرة معروف الكرخي لبعض الشيعة". وفي هذا دلالة على أن ضريح الكرخي كان مقراً لمناظرات بين المختلفين في المذاهب والرؤى والتصورات والتأويلات. ويقول الباحث المسيحي يعقوب سركيس في "مباحث عراقية": كان معروف الكرخي متسامحاً، وقريباً من الجميع، ولذا أحبوه جميعاً. وقد أفرد ابن الجوزي قسطاً وافراً في الحديث عن كرامات الكرخي، في كتابه الشهير "صفة الصفة". ومن الوقائع التي تدل على تسامحه، وسعة أفقه، أنه قد نزل يوماً إلى دجلة يتوضأ ووضع مصحفه وملحفة فجاءت امرأة فأخذتهما، فتبعها، قال: أنا معروف، لا بأس عليك، ألكِ ولد يقرأ القرآن؟ قالت: لا، قال: فزوج، قالت: لا، قال: فهاتِ المصحف، وخذي الملحفة. وكان قاعداً على دجلة ببغداد حين مرَّ به غلمان في زورق، يضربون الملاهي ويشربون الخمر؛ فقال له أصحابه: ما ترى هؤلاء يعصُون! ادعُ الله عليهم!، فرفع يديه إلى السماء، وقال: إلهي وسيدي، كما فرَّحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة. فقال له أصحابه: إنما قلنا لك: ادعُ عليهم، فقال: إذا فرَّحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا، ولم يضركم شيء". وفي واقعة أخرى تدل على تسامحه، قال الحنفي في "الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية": "لما اعترض أحد مريدي الشيخ معروف على أسفه لعدم تمكنه من الصلاة على جنازة الإمام أبي يوسف بقوله: أنت تأسف على رجل من أصحاب السُّلطان يلي القضاء، ويرغب في الدنيا إن لم تحضر جنازته؟ أجابه بالقول: رأيت البارحة كأني دخلت الجنة، فرأيت قصراً قد فرشت مجالسه، وأرخيت ستوره، وقام ولدانه، فقلت لمن هذا القصر؟ فقالوا ليعقوب بن إبراهيم الأنصاري أبي يوسف، فقلت سبحان الله بما استحق هذا من الله؟ فقالوا: بتعليمه الناس العلم، وصبره على أذاهم". وقد سكن الكرخي بغداد ومات فيها ودفن سنة مائتين هجرية، الموافق سنة 815م، في مقبرة الشونيزية على جانب الكرخ من بغداد، وسميت فيما بعد "مقبرة الشيخ معروف"، وهي لا تزال أثراً خالداً كل من يقف عليه يؤمن بأن مصير البشر واحد، وأن أهل الأديان والمذاهب عليهم أن يتقاربوا لا أنا يتباعدوا، ويتحابوا ولا يتباغضوا، ويتركوا ما بينهم من خلافات عقدية إلى الله ليفصل فيها يوم الحساب أما في الدنيا فليس عليهم إلا البحث الدؤوب عن سبل العيش المشترك. وقد شاء الله أن تكون جنازة معروف الكرخي مثلًا للتسامح أيضاً، وهنا يقول ابن نباتة في "سرح العيون"، شيّعت بغداد في ساعة واحدة معروفاً الكرخي وأبا نواس، وربما دُفنا في مكان واحد. وقال أبو العتاهية: توفي أبو نواس ببغداد سنة مائتين هو ومعروف الكرخي في يوم واحد، فخرج مع جنازة معروف ثلثمائة ألف، ولم يخرج مع جنازة أبي نواس غير رجل واحد، فلما دفن معروف، قال قائل: أليس جمَعنا وأبا نواس الإسلام! ودعا الناس فصلُّوا عليه، فرئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بصلاة الذين صلوا على معروف وعليَّ. وعلى رغم تقادم الزمن، وتوالي الغزاة على بغداد، وتخريب الكثير من آثارها على أيدي المغول والعثمانيين والإيرانيين، فإن قبر الكرخي بقي مصوناً إلى الآن، وهو ما يفسره رشيد خيُّون بقوله: "لعلَّ في ذلك إيماءة أخرى إلى أن صاحب الضريح ظل معروفاً بين الناس فوق الميول والاتجاهات". ويقول أبوبكر الزجاج: قيل لمعروف الكرخي في عِلَّتِه: أوصِ، فقال: إذا متُّ فتصدقوا بقميصي هذا فإني أحب أن أخرج من الدنيا عرياناً كما دخلت إليها عرياناً".