ثمة أفق جديد فتحته الدبلوماسية السورية النشطة عبر ما طرحته سوريا من رؤية استراتيجية لربط البحار الخمسة (المتوسط، والأحمر، والخليج العربي، والأسود، وقزوين) والطريف أن رئيس الوزراء الروماني إيميل بوك دعا إلى ربط هذه الرؤية بمجموعة نهر الدانوب نظراً لأهمية منطقتنا بالنسبة لجيرانها الأوروبيين، وتضم الدول التي يجمعها الدانوب بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا والنمسا وكرواتيا وهنغاريا. والدعوة لابد مفتوحة أمام كل الدول الصديقة التي تريد تحقيق مصالح مشتركة، وقد بدأت هذه الرؤية تتجسد منذ أن بنت سوريا وتركيا اللبنات الأولى لهذا التعاون الدولي الذي نحرص على أن تنضم إليه دول المنطقة العربية والصديقة مع دول البلقان ودول أخرى صديقة من آسيا تمتد إلى الصين. ولقد لقيت الدعوة استجابة واسعة من فنزويلا لأهمية الربط بين القارات ومن سمع خطاب الرئيس شافيز في زيارته الأخيرة لدمشق (22/ 10/ 2010) يدرك أهمية التحولات التي تعشيها القارة الأميركية الجنوبية، وتأتي أهمية هذه الرؤية من كون برامجها المطروحة ذات بعد عملي، فهي تنهض على مشاريع اقتصادية تتعلق بالطاقة من نفط وكهرباء وغاز ومشاريع نقل بحري وسكك حديدية كي يتصاعد التبادل التجاري ويحقق للشعوب مصالح مشتركة تشكل قاعدة للعمل السياسي بينها، فضلاً عما تضمنه هذه المصالح من تقارب ثقافي واجتماعي. ويرى بعض المحللين أن سوريا تستعيد ما حرص عليه قبل عقود مؤتمر باندونغ 1955 عبر مبادئه التي يحتاج إليها العالم اليوم لترسيخ مفاهيم السلام ومنع وقوع الحروب، والعالم كله يتذكر تلك المبادئ العشرة العظيمة التي تطلع إليها قادة عدم الانحياز الذين دعوا إلى التعايش السلمي، والاحترام المتبادل لسيادة سلطة الدولة على كامل أراضيها وعدم الاعتداء على الآخر أو التدخل في شؤونه الداخلية، والتساوي بين الدول، وتحقيق المنفعة المتبادلة. ولئن كان الغرب قد غاب عن مؤتمر باندونغ فإن الرؤية الاستراتيجية التي أطلقتها سوريا تفتح الأفق واسعاً أمام من يشاء من دول الغرب في رؤية عادلة تضمن له وللآخر مصالحه، وهي تمد يداً رحبة إلى دول صديقة في أوروبا مثلما مدتها إلى أميركا اللاتينية وبخاصة كوبا والأرجنتين والبرازيل، فضلاً عن التمكين للتدفق الآسيوي الذي تجسده شبكة مصالح عربية واسعة مع دول مهمة مثل الصين والهند وماليزيا وإندونيسيا وسواها من بلدان النمور الآسيوية التي تستعيد قدراتها بقوة. وتأتي الدعوة السورية بطابعها العملي فتضع الاقتصاد في الواجهة، وتعلي من شأن المصلحة المشتركة لتضيف إلى رؤية باندونغ ما كانت تفتقده من رؤى عملية خارج إطار المواقف السياسية التي سرعان ما انقض عليها الغرب المستعمر، وقد عاد إلى تلك البلاد المستقلة بأوجه جديدة ليتابع نهب ثرواتها والاستهانة بسيادتها، ولإفراغ استقلالها من مضمونه وحتى من شكله. ومع ظهور ما سمي النظام الدولي الجديد، وما سعت إليه المظاهر الوحشية من العولمة، وأهمها غياب التوازن الدولي، وسيادة قطب واحد لا يرى سوى مصلحته ومصلحة إسرائيل بالتحديد، وانعدام الديمقراطية الدولية بحيث فقدت الشعوب ثقتها بمنظمتها الدولية (هيئة الأمم المتحدة) وبمجلس الأمن الذي جعلته قراراته المذعنة مجلس حرب، ولاسيما بعد أن أصبحت الحروب سمة النظام الدولي الذي بشر به بوش الأب، ونفذه بوش الابن الذي يعترف في كتابه الشخصي "قرارات حاسمة" بكل ما شن من مجازر وحروب دمرت دولاً وبلداناً وأزهقت أرواح ملايين من الأبرياء مع إعلانه خيبة أمله لأنه لم يجد أسلحة دمار في العراق وهو يقول: "لم يشعر أحد مثلي بالصدمة والغضب عندما لم نجد الأسلحة، ما زلت أشعر بالتقزز عندما أفكر بالأمر حتى الآن". وبالطبع لا يشير بوش إلى أي شعور بالندم تجاه الدمار المرعب الذي حل بالشعب العراقي، فالشعب الذي تعرض لأقسى سنوات العذاب لا يستحق من بوش لحظة شعور بالندم، وكيف يشعر بالندم من يعترف بأنه أعطى أوامر بالتعذيب لمتهمين لم تثبت إدانتهم بشيء، حتى إن كلوديون كوردوني المدير في "أمنيستي" (منظمة العفو الدولية) قال: "إن اعتراف الرئيس الأميركي السابق بأنه أجاز استخدام ممارسات ترقى إلى مستوى التعذيب يُعتبر بموجب القانون الدولي كافيّاً لمطالبة الولايات المتحدة بالتحقيق ومحاكمته إذا ما ثبتت صحة ذلك". وقال "إن اعترافات بوش تسلط الضوء على غياب المساءلة عن جرائم التعذيب والاختفاء القسري التي ارتكبتها الولايات المتحدة بموجب القانون الدولي". والمؤسف أن أحد أبرز كُتابنا العرب اكتفى تعليقاً على أخطر اعترافات ضد أمتنا بالقول "إن اعترافات بوش غير مقبولة لأنها تخرجه من زمرة الرؤساء العظام في تاريخ أميركا". ولا داعي للتعليق على هذا التعليق المضحك، ولن أستطرد في الحديث عما جاء في الكتاب الشهير الثاني "في سر الرؤساء" الذي تابع فيه الفرنسي "فانسان نوزي" فضح مزيد من المكائد والمؤامرات ضد العرب والمسلمين، لكنني أنصح شباب الأمة بأن يقرؤوا الكتابين، أو أن يقرؤوا عنهما كي يستعدوا للمستقبل الذي ترسمه لهم هذه القيادات التي ما تزال صانعة القرار الدولي، وهي كما يكشف اعتراف بوش لمرات عديدة تنطلق من إيديولوجية دينية ترى تحقيق الحلم الصهيوني واجباً مقدساً، ولا يخفى على أحد من المتابعين أن ما يتم طبخه الآن هو مرحلة جديدة من المواجهة، وهي تنذر بحرب واسعة النطاق إذا ما فشلت المساعي في تطويق الموقف من المحكمة الدولية والتحقيق في عملية اغتيال الشهيد الحريري، بعد أن اكتشف العالم كله أن التحقيق مجرد (فزاعة) وأن الذين ارتكبوا الجريمة هم الذين يستثمرون أهدافها بخططهم السياسية التي تريد القضاء على كل أشكال المقاومة، فالهدف عندهم ليس معرفة من ارتكب الجريمة، وإنما المطلوب رأس المقاومة، وقد توهم المجرمون إمكانية إلقاء القبض على سوريا لكونها تدعم المقاومة، ولكن المخططين سرعان ما أدركوا عقم محاولتهم، ولم يجدوا عبر شهود الزور الذين اصطنعوهم سوى فخ وقعوا فيه هم أنفسهم، وكان هدفهم عزل سوريا عن العالم، وهم اليوم يرون الآفاق التي انطلقت إليها سوريا، وهي تؤدي دورها على ساحة فسيحة، ورؤيتها الاستراتيجية ليست محدودة بنطاقها المحلي أو الإقليمي، وهي لا تعبر عن مصالحها الذاتية وحدها، وإنما تعبر عن مصالح الأمة كلها، وتوظف كل إمكاناتها وعلاقاتها من أجلها، ولا تقبل أي شيء يتعارض مع المصلحة العليا للعرب جميعاً.