معظم الغربيين اليوم لا يعرفون عن الحضارة الإسلامية وتاريخها إلا القشور، ولا كيف لعب العقل العربي المسلم في مرحلته الحضارية التي امتدت قروناً عدة، دوراً كبيراً في النهضة العلمية التي وصلت إليها أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. ورغم ذلك فقد تنبه إلى هذه الحقيقة بعض المفكرين الغربيين، فكتبوا عن فضل الحضارة الإسلامية على أوروبا، ومما كُتب في هذا المجال السفر الرائع "شمس العرب تسطع على الغرب" للمستشرقة الألمانية القديرة زيغريد هونكه، و"تاريخ ضائع" لمايكل هاميلتون مورخان، و"مصباح علاء الدين" (عنوانه الفرعي: كيف وصلت العلوم الإغريقية إلى أوروبا عبر العالم الإسلامي) لجون فريلي. لكن ما يميز كتاب "بيت الحكمة"، لمؤلفه جوناثان ليونز، أنه يقودنا إلى مساحات تاريخية وعلمية واسعة وعميقة وغاية في الجاذبية من خلال السرد والتحليل التاريخي لقوة الحضارة الإسلامية وعظمتها. ومن خلاله يفتح لنا خزائن الفكر الهائل الذي تمتلكه الأمة العربية مُبيناً لنا كيف أن حضارة العرب الإسلامية حولت الغرب من شعوب متخلفة إلى قوة علمية وتكنولوجية عظمى، مشبهاً ذلك الدور بـ"الإكسير المراوغ في الكيمياء القديمة". فقد ساعد العلم والفلسفة العربيان على إنقاذ العالم المسيحي من حالة الجهل والخرافة، تلك الحالة التي يصفها العالم "دانييل أوف مورلي" بعد عودته من الدراسة في الأندلس قائلاً: "عندما غادرت إنجلترا لمتابعة دراستي الأكاديمية وأمضيت في باريس بعض الوقت، كان هناك بهائم متربعين على كراسي الأستذة، يتمتعون بسلطة خطرة. ومن جهل هؤلاء أنهم كانوا يقفون جامدين كالتماثيل متظاهرين بالحكمة والتزام الصمت. لكني عندما سمعت بمذهب العرب، وكان هو السائد بطليطلة في تلك الأيام، هرعت إليها لأستمع إلى أحكم حكماء العالم". لقد كانت الأندلس منطقة استراتيجية مهمة لانتقال الأفكار والاختراعات، وقد شكلت علومها وحضارتها المنبع الذي نهل منه كبار علماء الغرب، من أمثال غاليليو وكوبرنيس وغيرهما الكثير. وهنالك ثلاث نقاط مهمة أشار إليها ليونز في كتابه: الأولى أن الغرب يدين بدين هائل للعرب والمسلمين بما تركوه من علوم وإرث حضاري لا يقدر بثمن، فعمالقة العلم العربي، مثل الخوارزمي وابن سينا والفارابي والإدريسي وابن الهيثم وابن رشد وغيرهم الكثير، هيمنوا فكرياً على أوروبا قروناً طويلة. لكن ثمة تعمداً من الغرب لتغييب فضل الحضارة الإسلامية عليه، والتي لولاها لكان من المستحيل تصور الغرب بما هو عليه اليوم. لكن بدلاً من الاعتراف بفضل العلم العربي والحضارة الإسلامية عليهم، يكتفي هؤلاء بالقول إن ما حدث من تقدم حضاري ما هو إلا استرجاع للعلم العربي الكلاسيكي، وإن هذه المعرفة كانت بشكل ما مكتسباً طبيعياً بالولادة لأوروبا المسيحية وليست نتيجة العلم العربي! وهو زعم تكفلت الكتب المشار إليها آنفاً بتفنيده. والثانية أن اللغة العربية والترجمة كان لهما الدور الأساسي في صناعة قوة الحضارة الإسلامية العلمية التي سادت العالم. والثالثة أن الأمة العربية والإسلامية قادرة في أي لحظة على النهوض مجدداً وتحقيق موازين القوة ومعادلة النهوض، وذلك لأن قوتها تكمن في مخزونها الفكري واللغوي والحضاري. فالعرب، حسب ابن خلدون، لا يستطيعون البقاء ساكنين، بل غاية الأحوال عندهم الرحلة والتغلب. وحتى الانقسامات السياسية العميقة، كما كان في الأندلس خلال القرن الحادي عشر حين تحللت إلى ممالك صغيرة متنازعة... لم تستطع تحطيم الروابط الأساسية التي بلورها المشترك الديني واللغوي والثقافي، الواسع والعميق.