عدد كبير من المصطلحات والمفاهيم تم استخدامها عربياً وعالمياً في حقب ومراحل زمنية مختلفة، وهي كلمات مؤدلجة وتحمل شحنات عاطفية ترتبط بمستوى الوعي والأفكار والمشاعر السائدة في تلك الحقب الزمنية. لكن لنتساءل هل يمكن أن تبقى تلك الرؤى والأفكار والمشاعر ثابتة وقارة في الأذهان والعقول رغم تغير الظروف وتبدل الأحوال والأزمان؟ من المفاهيم التي سادت في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات وحتى قبل نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، مفهوم النضال: النضال ضد الاستعمار، النضال ضد الرجعية، النضال ضد الصهيونية... إلخ، لكن مع فشل الأنظمة العربية في معارك التحرير ومعارك التنمية وبناء الإنسان والأوطان، ومع تفاقم ظاهرة الاستبداد، كانت خسارة هذه البلدان كبيرة بحجم استفحال الاستبداد نفسه. ويمكن القول بأن شعار النضال فقد بريقه وفقد شحناته التحريضية، وأضحى مادة للتندر والفكاهة، فلم يعد أحد يفاخر بالقول لآخر: أخي المناضل، إخوتي المناضلين، ولم تعد البيانات الحزبية والإيديولوجية تدبج مقدماتها بكلمة أيها الأخوة المناضلون... لأنها كلمة فقدت بريقها الأيديولوجي ومعناها الحقيقي، وتحول "المناضلون" إلى أساطين وديناصورات للفساد في بلدانهم. لم تعد الكلمة -الشعار تستخدم لأغراضها السابقة، وحلت محلها مفاهيم بديلة متأثرة بالموجة الدينية؛ كالجهاد، والمقاومة، وأحياناً الممانعة. لقد أضحت كلمة النضال مهملة ومنسية ومهمشة، لذلك أرى طرح هذا المفهوم "النضال" لغايات أخرى جديدة مضادة للغايات التي استخدم لأجلها سابقاً، وذلك بأن تُستخدم من قبل القوى الديمقراطية والليبرالية ضد الأنظمة المستبدة وسحب البساط من تحتها نظرياً، وذلك بأن نقول: النضال ضد الاستبداد، ولم لا؟ طالما أن هذه الدول الاستبدادية أضرت وتضر أكثر مما أضر الاستعمار، إذ أجهزت على الإنسان فدمرت كل مشاعره الحيوية الإنسانية المتيقظة، وشلت قدراته الفكرية ونشاطاته الاجتماعية والاقتصادية. لذلك يجب أن يكتسب مفهوم "النضال" بعداً جديداً على الصعيد العربي والشرق أوسطي، بأن يكون ضد الأنظمة القاهرة والمستبدة والمناهضة لتطلعات شعوبها في التنمية والحرية والعدالة وبناء الإنسان... أن يكون النضال رافعة قوية في وجه من كان يستخدمه ولا يزال لأهداف غير واقعية. لقد طرح بعضهم أمراً غريباً وهو أنه على الشعوب العربية أن تساند حكوماتها ضد القوى الخارجية، وإذا انتصرت عليها فحينئذ يمكن إسقاط الأنظمة! هذا أمر طوباوي لا يقبله عاقل... فكيف لشعب مكبل اليدين ومحروم من أبسط حقوقه أن يهزم قوى عالمية ضخمة تمتلك إمكانات تكنولوجية هائلة؟ وكيف له أن يساند قامعيه وظالميه وهو لا حول له ولا قوة؟ إن الإنسان الذي ينتمي لهذه البلدان لا يمكن له أن يتفرغ، وهو لم ينل حقوقه الأساسية، لمهام خارجية يمكن أن تكون ذات طابع دبلوماسي وعقلاني. إن مفهوم النضال وشحناته المرافقة، يجب أن يتحول إلى ساحة أخرى، باتجاه نيل استقلال آخر يسميه المفكر والحقوقي التونسي المنصف المرزوقي "الاستقلال الثاني"! حواس محمود كاتب سوري ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"