هل يمكن للبحث العلمي أن يدلف إلى القلاع المحصنة لصناعة القرار في الأنظمة العربية المختلفة، لكي يكشف عن أسرار عملية صنع القرار؟ وكيف ذلك والأنظمة السياسية العربية في غالبيتها العظمى ليست فيها أجهزة رسمية معلنة لصنع القرار، على خلاف عديد من النظم السياسية الديمقراطية؟ في الولايات المتحدة الأميركية -على سبيل المثال- هناك مجلس للأمن القومي، وهناك وكالة المخابرات المركزية، بالإضافة طبعاً إلى الكونجرس ومجلس النواب. وهذه الهيئات جميعاً عادة ما تستشار في إصدار عديد من القرارات، سواء تعلقت بالسياسة الخارجية أو بالسياسة الداخلية. والوضع نفسه نجده في إنجلترا وفرنسا، على اختلاف بينهما في مركزية دور رئيس الجمهورية في فرنسا ورئيس الوزراء في بريطانيا. ومع أن النظم السياسية العربية لا تتضمن بالضرورة هيئات رسمية تستشار في صنع القرار، إلا أن "مركز دراسات الوحدة العربية" قرر منذ فترة الدخول في "مغامرة علمية" تتمثل في إجراء دراسة عن "كيف يصنع القرار في الأنظمة العربية؟" وقد كلف المركز مجموعة من الباحثين السياسيين المتميزين بإجراء دراسات حالة لكل من الأردن والجزائر والسعودية والسودان وسوريا والعراق والكويت ولبنان ومصر والمغرب واليمن. وقد نشر المركز هذا الأسبوع الكتاب الذي يضم هذه الأبحاث الرائدة بتحرير وتنسيق د. نيفين مسعد، التي قامت بعمل فذ في نهاية الكتاب، وهو تقديم دراسة مقارنة لكل هذه الحالات، لتخرج لنا بنظرية فريدة عن صنع القرار في الأنظمة السياسية العربية، بالرغم من التباين الشديد في بنيانها السياسي ودرجة الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، بالإضافة إلى الاختلافات المعروفة بين النظم الملكية والنظم الجمهورية وكذلك النظم "الثورية"! والدكتورة نيفين مسعد صاحبة هذه النظرية أستاذة في العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ولها منشورات علمية متعددة. وينبغي أن نشير إلى المخطط الأول للمشروع كما أعده "مركز دراسات الوحدة العربية" الذي حدد أهدافه: أولاً رسم خريطة واقعية للقوى والمؤسسات والأطراف التي تقوم بصنع القرار في الوطن العربي أو تؤثر فيه، من حيث مصادر قوتها، وشبكة علاقاتها الخارجية، وتوجهاتها السياسية. ثانيّاً، تحليل خريطة التطور في القوى والمؤسسات الفاعلة، وذلك عبر مقارنة الخريطة الراهنة بسابقتها منذ لحظة الاستقلال. والهدف الثالث هو بيان أوجه الشبه والاختلاف بين آليات عملية صنع القرار ومراحلها وأولوياتها في البلدان العربية موضع الدراسة. والهدف الرابع والأخير هو تقديم رؤية مستقبلية تتصل بعملية صنع القرار في الوطن العربي، من خلال إخضاعه للعمل المؤسسي وللقواعد الإجرائية المنضبطة. وقد تم إجراء دراسات الحالات الاحدى عشرة، وتضمنت جميعاً بيانات بالغة الثراء عن عملية صنع القرار في هذه الدول المختلفة جميعاً، مما سمح للدكتورة نيفين مسعد بأن تصوغ على هدى نتائجها نظرية عامة لصنع القرار في الوطن العربي، قامت على أساس ثلاث فئات من المعايير الأساسية، وهي فئة أطراف صنع القرار، والمؤثرات الخارجية (الإقليمية والدولية) في عملية صنع القرار، ومضمون القرارات المصنوعة أو أبرز ما يميزها من خصائص. وفيما يتعلق بأطراف صنع القرار برزت محورية دور رئيس الدولة أيّاً كانت طبيعة النظام السياسي. غير أن محورية دور الرئيس لم تحل دون الإشارة إلى تأثيرات بعض الأطراف الأخرى. والظاهرة الملفتة حقاً هي تزايد دور أبناء الرؤساء. لوحظ ذلك في سوريا حيث تولى بشار الأسد رئاسة الجمهورية بعد وفاة والده، وفي مصر حيث يلعب جمال مبارك داخل "الحزب الوطني الديمقراطي" دوراً رئيسيّاً باعتباره الأمين المساعد للحزب، ورئيس لجنة السياسات التي أصبحت في السنوات الأخيرة أهم لجان الحزب قاطبة لأنها عبارة عن "المطبخ" الذي تعد فيه السياسات التي تترجم بعد ذلك في صورة تشريعات وقوانين. وكذلك حالة اليمن حيث صعد نجم أحمد علي عبدالله صالح في منذ فاز بعضوية مجلس النواب عن إحدى دوائر صنعاء في عام 1997، ثم توليه قيادة الحرس الجمهوري. والظاهرة الثالثة في أطراف صنع القرار هي محدودية دور البرلمانات العربية وتأثير السلطة القضائية (المحكمة الدستورية نموذجاً) في الحالة المصرية على وجه الخصوص. وهذه المحكمة بالذات تقوم بإلغاء أو تصحيح أو تفسير بعض قرارات رئيس الجمهورية على غير ما أراد صانع القرار. والظاهرة الرابعة هي تغير خريطة النخبة المؤثرة في صنع القرار. وقد تم رصد التراجع النسبي في دور الجيش وبروز دور رجال الأعمال، وهناك تغير واضح في المشهد السياسي العربي حيث لوحظ صعود الحركات الاحتجاجية مقارنة بالأحزاب والجمعيات. ولوحظت ظاهرة سلبية في الواقع وهي تعدد الفاعلين ذوي الخلفية الدينية. ومع أن الدين لم يغب تأثيره في عملية صنع القرار العربي في أي مرحلة من مراحل التطور السياسي العربي إلا أن ظاهرة المد الديني منذ نهاية الستينيات أدت إلى تغير موازين القوى، حيث شملت مساحة خريطة الفاعلين الدينيين كلاً من المؤسسة الدينية الرسمية والتيار الإسلامي المنخرط في العمل الإسلامي والتيار السلفي أو الحركات المتشددة، و"الدعاة الجدد" الذين يقدمون خطاباً قادراً على تعبئة الشباب. وإذا كان ما سبق مفردات فئة أطراف صنع القرار، فإن الفئة الثانية هي التأثير الخارجي في صنع القرار. وفي هذا المجال فقد يكون من المناسب منهجيّاً وضع مجموعة من المتغيرات الحاكمة التي تؤثر في قابلية الدولة للتعرض للضغط الخارجي، والمقارنة بين حالات الدراسة بناء عليها. وقد اختارت الدكتورة نيفين مسعد ستة متغيرات رئيسية هي بنية الدولة، والموقع الجغرافي، ودرجة التجانس الديموجرافي، والموارد الاقتصادية (شحّاً ووفرة)، ونظام الحكم، والتنافس الإقليمي. ومن الواضح أن هذه المتغيرات الستة سيختلف دورها في صنع القرار بحسب كل دولة على حدة، ولعل بنية الدولة ونظام حكمها وموقعها الجغرافي هي أهم هذه المتغيرات قاطبة. وقد استطاعت نيفين مسعد في ختام دراستها المقارنة أن تضع يدها بذكاء على أهم السلبيات التي تتسم بها عملية صنع القرار في الوطن العربي، وهي العشوائية، وسوء اختيار التوقيت، وعدم الخضوع للتشاور إلا في الحد الأدنى، وعدم الاستجابة للضغوط الشعبية إلا في الحد الأدنى، وعدم المؤسسية، وفقدان المصداقية. إن تأمل كل هذه السمات يكشف في الواقع بعمق عن سر عجز النظام العربي عن أداء وظائفه بفعالية في مجتمع الدول من ناحية، وفشل الدول العربية المختلفة في تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي ينقلها من السلطوية إلى الليبرالية، مما يجعل عملية صنع القرار عقلانية وتتم في الوقت المناسب في ضوء حد أقصى من التشاور، مع الاستجابة المعقولة للضغوط الشعبية في سياق تعمل فيه المؤسسات بكفاءة مما يعطي مصداقية للقرارات التي تتخذها الدولة. غير أن ذلك يحتاج في الواقع إلى إعادة صياغة كاملة لبنية النظم السياسية العربية حتى تستطيع أن تتعامل بكفاءة مع تحديات الألفية الثالثة. هل يمكن أن يتحقق هذا المطلب أم أنه مجرد حلم بالتغيير الإيجابي؟