شهدت بداية هذا الأسبوع تنظيم العديد من المنظمات الصحية الدولية، والجهات الطبية المحلية، لحزمة من الأنشطة التعليمية والفعاليات التثقيفية، بغرض إحياء مناسبة يوم السكري العالمي، الذي يحل في الرابع عشر من شهر نوفمبر من كل عام، متزامناً مع تاريخ ميلاد واحد من أوائل العلماء الذين حققوا اختراقات مهمة على صعيد العلاج بهرمون الإنسولين، الذي يعتبر خط الحياة حاليّاً للملايين من مرضى السكري. وتأتي ذكرى هذا العام، مثلها مثل الأعوام السابقة، في وقت تتعرض فيه أفراد الجنس البشري لوباء من مرض السكري، ربما لم يشهد التاريخ مثله من قبل. وهو ما تؤكده جميع الدراسات والإحصاءات الطبية التي تظهر وجود أكثر من 220 مليون شخص مصاب حاليّاً بالسكري، يقتل المرض منهم أكثر من مليون سنويّاً، وهو عدد تتوقع المنظمات الصحية الدولية أن يتضاعف بحلول عام 2030. وهذا العدد الهائل من الضحايا يسقط نصفهم -50 في المئة تقريباً- صرعى للتغيرات المرضية التي يحدثها السكري في شرايين القلب، بالإضافة إلى 10 أو 20 في المئة آخرين يلقون حتفهم نتيجة الفشل الكلوي بسبب السكري. وبخلاف الوفيات المبكرة، حيث تزداد احتمالات وفاة مريض السكري مبكراً بمقدار الضعف مقارنة بأقرانه الأصحاء، نجد أن السكري يتسبب في كم هائل من المضاعفات، التي تؤثر سلباً على حياة من لم يقتلهم المرض بعد. فعلى سبيل المثال، يعتبر تأثير السكري على الأوعية الدموية الدقيقة في شبكية العين، أحد أهم أسباب فقدان البصر والعمى حول العالم، حيث يفقد 2 في المئة من الملايين المصابين بالسكري بصرهم بعد مرور 15 عاماً على إصابتهم بالمرض، وفي الوقت نفسه يعاني 7 في المئة آخرون من ضعف شديد في النظر، يصل إلى حد الإعاقة البصرية. ويمتد تأثير السكري إلى الأطراف، حيث يخفض من كمية الدم المتدفق عبرها، ويقلل من حساسية الأعصاب المغذية لها، مؤديّاً إلى التقرح المزمن في الساقين، مما يستوجب استئصالهما في النهاية. وكثيراً ما يؤدي تأثير السكري على الأعصاب إلى الإحساس الدائم بالألم، والتنمل، والضعف في اليدين والقدمين، وهي التأثيرات التي لا تفلح غالباً الأدوية والعقاقير في تخفيف حدتها. ولا يقتصر تأثير السكري على الفاقد الإنساني فقط، بل يحمل أيضاً في طياته ثمناً ماليّاً واقتصاديّاً باهظاً، يتحمل عبئه المرضى، وعائلاتهم، ونظم الرعاية الصحية، واقتصاد الدول برمته. فعلى سبيل المثال، تقدر منظمة الصحة العالمية أن في الفترة الممتدة بين عامي 2006 -2015 ، سيفقد الناتج القومي الصيني 558 مليار دولار، نتيجة أمراض القلب، وأمراض شرايين المخ، وداء السكري. وإذا ما طبقنا نفس التقديرات على الدول الأضعف اقتصاداً، والأشد فقراً، فسنجد أن السكري وما ينتج عنه من مضاعفات في شرايين القلب وشرايين المخ، كثيراً ما يكون سبباً رئيسيّاً في إعاقة جهود التنمية، وخفض إجمالي الناتج القومي ومتوسط دخل الفرد. وحتى الدول الغنية، ذات الاقتصادات الضخمة، ودخول الأفراد المرتفعة، ونظم الرعاية الصحية الحديثة والمتطورة، لا يمكن أن تنأى بنفسها هي الأخرى عن التبعات المالية والاقتصادية لوباء السكري الحالي. حيث قدر مثلاً أحد المراكز القومية الأميركية المتخصصة في جمع ونشر المعلومات عن السكري، بأن تكلفة علاج السكري في الولايات المتحدة وحدها، تزيد عن 132 مليار دولار سنويّاً. وهذا الرقم على ضخامته، يبدو شديد التحفظ في ظل الدراسات الأكثر حداثة في هذا الموضوع. فعلى سبيل المثال، نشرت سابقاً جريدة "يو إس توداي" الأميركية، خبراً عن دراسة أجرتها الجمعية الأميركية لمرض السكري بالتعاون مع إحدى أكبر الشركات المصنعة للإنسولين وحبوب علاج السكري في العالم، أظهرت أن تكلفة السكري في الولايات المتحدة تزيد سنويّاً عن 218 مليار دولار. وهذا الفرق في تقدير التكلفة، ربما يعود إلى أن الدراسة الأخيرة أخذت في الاعتبار الفئات الثلاث لتكلفة علاج السكري، وهي التكلفة المباشرة المتمثلة في الحبوب والإنسولين، والفحوصات الدورية وغيرها، والتكلفة غير المباشرة المتمثلة في علاج مضاعفات السكري، مثل الفشل الكلوي، والعين السكرية، والقدم السكرية، وغير ذلك. وفي النهاية هناك أيضاً التكلفة الناتجة عن خسارة أيام العمل، وتراجع الإنتاجية، وخسارة رأس المال البشري بسبب الوفيات المبكرة التي تنتج عن السكري. والغريب في جهود مكافحة السكري ومضاعفاته، أن الجهات الممولة -شركات التأمين الصحي والحكومات الرسمية- تنفق المليارات على علاج المرض ومضاعفاته، ولكن تتقاعس عن إنفاق النزر اليسير على جهود الوقاية من الإصابة به من الأساس، ضاربة عرض الحائط بالحكمة المعروفة بأن درهم الوقاية خير من قنطار العلاج. وهذا الموقف يتمثل ببساطة في رفض هذه الجهات -وخصوصاً شركات التأمين- تحمل تكلفة الاستشارة الغذائية، التي لا تتخطى بضع مئات من الدراهم- مع أحد أخصائيي التغذية، للأفراد الذين يعانون من زيادة الوزن أو السمنة. وبما أن زيادة الوزن والسمنة المفرطة تعتبر أهم عوامل الخطر خلف الإصابة بالسكري من النوع الثاني، نجد أن الجهات الممولة لاحقاً، وبعد إصابة الشخص بالسكري، لا تمانع في إنفاق ألوف الدراهم سنويّاً على علاجه من السكري مدى الحياة، وأحياناً مئات الألوف في حالة ظهور المضاعفات، مثل الفشل الكلوي المزمن، أو قصور الشرايين المغذية لعضلة القلب. مع أنه كان من الأولى، والأكثر بداهة، توجيه مخصصات مالية كافية من البداية نحو جهود الوقاية، كي تتمكن هذه الجهات الممولة من توفير أضعاف مضاعفة من تكاليف الرعاية والعلاج للمرض ولمضاعفاته لاحقاً.