لم تهتم كما يجب أجهزة الإعلام العربية، قُطرية كانت أم فضائية، بالانتخابات الأميركية النصفية التي جرت قبل حوالي أسبوعين. وقد تركزت هذه الانتخابات على كل من مجلسي الشيوخ والنواب، جناحي الكونجرس اللذين يوازنان عادة البيت الأبيض. وقد سعى المؤسسون الأوائل للنظام السياسي الأميركي، من خلال هذه الصيغة، إلى أن يمنعوا احتكار سلطة القرار لأي من المؤسستين، الرئاسة والبرلمان، بل أرادوا أن تتوزع السلطة بينهما على نحو يضمن التوازن السياسي والقانوني ويضمن سلاسة وسلامة عملية الحكم واتخاذ القرار. إنها انتخابات مهمة بكل تأكيد، ومع ذلك لم تهتم بها برامج التحليل الإخباري في الإعلام التلفزيوني، المحلي والفضائي، العربي. ظاهرياً وسطحياً، قد يبدو أن تهميش هذه الانتخابات في أجندة برامجنا التلفزيونية أمر منطقي. فتحليل مضمون حملات المرشحين والمرشحات، ديمقراطيين كانوا أم جمهوريين أم مستقلين، يُبين عدم اهتمامهم بالسياسة الخارجية وإشكالياتها، حتى فيما يتصل بموضوعات تخصهم وتخصنا، مثل حرب العراق وتكاليفها البشرية والمالية، وقضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي، أو حتى فيما يتصل بالمستنقع الأفغاني. لكن هذه النظرة ضيقة وقصيرة المدى للغاية، حتى لا أقول خاطئة. فحتى ما قد يبدو موضوعاً محلياً في الولايات المتحدة الأميركية، وهي الدولة الأعظم، سيكون له تأثير على بقية أنحاء العالم بدرجات مختلفة، وبالطبع منطقتنا جزء من العالم. فمثلاً شكلت سياسة أوباما الاقتصادية جزءاً رئيسياً من جدل الحملة الانتخابية الأخيرة، وبالتالي فإن أي تغيير في هذه السياسة سيؤثر على بقية العالم، طالما أن اقتصاد الولايات المتحدة لا يزال يُمثل أكثر من خمس الإنتاج الإجمالي العالمي، كما أن وضع سعر صرف الدولار -ارتفاعاً أو انخفاضاً- لن يؤثر فقط على قيمة الدخول البترولية، وإنما أيضاً على كل دولنا ومجتمعاتنا التي لا تزال تستخدم الدولار كأساس لتعاملاتها الوطنية. فماذا إذن تعني نتائج تلك الانتخابات بالنسبة لنا، قُطرياً وقومياً؟ لنذكِّر هنا سريعاً بنتائج تلك الانتخابات، فقد اكتسح الجمهوريون مجلس النواب، بينما حافظ الديمقراطيون على أغلبيتهم في مجلس الشيوخ وإن بصعوبة شديدة. ففي مجلس النواب ذي الـ435 مقعداً، انكمش تمثيل الديمقراطيين من أغلبية ذات 255 مقعداً إلي أقلية ذات 181 مقعداً فقط. وحتى بين حكام الولايات الـ 50، والتي شملت الانتخابات 37 مقعداً منها فقط، فقد انخفض عدد الديمقراطيين من 26 حاكماً إلى النصف تقريباً، أي 14 حاكماً، ولم تحسم 9 مقاعد بعد. ورغم أهمية الأرقام، إلا أن هناك ما هو أهم وأبعد مغزى، ألا وهو التوجه السياسي للأعضاء الجدد، فهم بإجماع الآراء يعكسون توجهاً نحو اليمين المحافظ، وسعياً إلى كسر الرؤية السياسية التي جاء بها أوباما إلى البيت الأبيض منذ سنتين. كما أن الهدف الحقيقي ليس الكونجرس في حد ذاته، رغم أهميته، ولكن إخراج أوباما من البيت الأبيض في جولة الانتخابات الرئاسية القادمة بعد سنتين. وقد يقول قائل إن مثل هذا التغيير لن يؤثر على توجه الولايات المتحدة ناحية الصراع العربي الإسرائيلي، والذي لا يزال في مقدمة الاهتمامات العربية، على أساس أن هناك شبه إجماع قومي بين الأميركيين على دعم إسرائيل دون تهاون أو تردد، وأن هذا التأييد يتعدى الخلافات الحزبية بين الجمهوريين والديمقراطيين وغيرها من الخلافات والتباينات. وبالرغم من أن ذلك الرأي صحيح في العموم، إلا أن وصول أوباما، بأصوله الإفريقية ومعرفته بالإسلام وتوجهاته المجتمعية، إلى سدة البيت الأبيض، شكَّل نقلة نوعية في التوجه الأميركي؛ وقد تجسد ذلك في قرار تخفيض قواته في العراق، ومواجهته في البداية مع نتنياهو، ثم محاولة تخاطبه مع المسلمين مباشرة من منبر جامعة القاهرة في يونيو الماضي، وصولاً إلى خطابه في أندونيسيا قبل أيام قليلة من الآن. لذلك فإن البديل لأوباما ليس فقط اليمين، بل اليمين المتطرف من أمثال "المحافظين الجدد" الذين دعموا دينياً التوافق العضوي مع إسرائيل، وقاموا بغزو العراق بناء على أكاذيب أصبحت معروفة اليوم، وأسسوا سياستهم الخارجية على العصا والعسكرة. وإلى أن يحين موعد مواجهة أوباما في الانتخابات الرئاسية سنة 2012، سيقوم هذا اليمين بمحاولة إضعافه في مجلس النواب، حيث ستتحول رئاسة المجلس، وكذلك لجنة العلاقات الخارجية، إلى النواب الجمهوريين المدعومين من اليمين المتطرف والمحافظين الجدد، من أمثال ميت رومني، وتيم باولينتي، وكذلك سارة بالين التي تتزعم جناح "حفلة الشاي"، هذا الجناح الذي يحاول تطويع نائب شاب ونجم صاعد مثل ماركو روبيو الذي فاز بمقعد مجلس الشيوخ عن فلوريدا والذي يقدمه البعض على أنه "أوباما الجمهوري" في الانتخابات الرئاسية القادمة بسبب صغر سنه (39 عاماً)، وأيضاً أصوله العرقية الإسبونو-أميركية. واستعداداً للانتخابات الرئاسية، ستشتعل الحرب السياسية والعقائدية ضد أوباما من تشكيلة الكونجرس اليمينية الجديدة لإجباره على تخفيف توجهاته الاجتماعية في تأييد المهمشين والمستضعفين في الداخل والخارج، وقد اعترف هو صراحة بأنه سيضطر إلى الإنصات إلى تشكيلة الكونجرس الجديدة، وحتى إلى تقديم تنازلات لتمرير سياساته ووقف التدهور في شعبيته (من 78 في المئة بعيد انتخابه إلى 45 في المئة حالياً). وفي العامين القادمين سيكون المسرح السياسي الأميركي ميدان عمليات، وقد يؤدي هذا إلى بعض التخبط والتردد وحتى الشلل في السياسة الأميركية إزاء منطقتنا. فكيف سنتعامل مع حالة عدم اليقين في الشارع الأميركي؟ هل سنحاول الاستفادة من هذه الحالة لتوجيهها ناحية مصالحنا، أم سنترك حالة التردد في الشارع الأميركي لقمة سائغة للآخرين؟